عسكرة المجتمع العراقي
عسكرة المجتمع العراقي
حميد الهاشمي(*)
هذه محاولة لرصد مظاهر عسكرة المجتمع العراقي وآثارها السلبية وفقا لرؤية انثروبولوجية تتبع الانعكاس والمعطى الاجتماعي مع بعض المؤشرات الاحصائية لهذه الظاهرة خاصة فيما يتعلق بالتسلح والانفاق عليه. ولما اصبحت الاحداث تتسارع بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق وقيام مرحلة انتقالية، فانه يتطلب توثيق سريع للجانب الاجتماعي والثقافي، نتيجة لما مر به العراق في فترة ذلك النظام ومحاولة ايجاد التعليلات العلمية والموضوعية قدر الامكان، والسعي لتقديم تصورات، المرجو منها خدمة المرحلة القادمة انطلاقا من تجاوز ما فات والاستفادة من أخطائه.
نتناول هنا بوادر العسكرة وتطورها في الدولة العراقية الحديثة، ثم اإراز مظاهرها، وآثارها السلبية على المجتمع العراقي ومنظومته القيمية والسلوكية وبمنظار انثروبولوجي. يأتي ذلك بعد التطرق الى مفهوم العسكرة ومقارنته بمفهوم العسكرتارية.
وفي خاتمة هذه الورقة هناك تصور لدور النخبة المثقفة والمتعلمة في المجتمع العراقي للعب دورها المرجو في تعديل اتجاه المجتمع بالقدر الممكن ومحاولة محو آثار العسكرة هذه وتلافي احتمالاتها المستقبلية.
إلماعة عاجلة:
ليس بالضرورة ان الحديث عن العسكرة او إعتبارها مثلبة ان يكون حطاً من قدر الجيش بصورة عامة كمؤسسة واجبها الرئيس هو الدفاع عن البلد ارضا ومجتمعا. فالجيش والخدمة فيه تأخذ معاني وأبعاداً كبيرة منها القدسية وخدمة العلم وشرف الوطنية و الخ مما هو يستحق فعلا لو بولغ فيه.
وتثار المسألة الجدلية هنا والتي تنطوي على السؤال التالي: من أهم ؟ الانسان أو الأرض أو التراب ؟
هذا اذا افترضنا مبدئيا ان الجيش مسخّر بصورة خالصة لخدمة الوطن وليس لخدمة أو حماية النظام الحاكم. فللجيش مهام وطنية وإنسانية على ما يفترض وهي حماية مواطنيه وحدود بلده من أي إعتداء خارجي. كما ان لديه مهام داخلية تتجسد في تقديم المساعدة والعون في حالات الطوارئ والكوارث البيئية من فيضانات وحرائق وغيرها. وتلعب بعض جيوش البلدان دورا انتاجيا يتمثل في زراعة واستثمار مساحات واسعة تهدف الى انعاش اقتصاد البلد وتوفير الاكتفاء الذاتي لها على اقل تقدير كي لا تكون عبئا ثقيلا على البلد.
ومن الواجبات الانسانية الاخرى والتي ظهرت حديثا وهي جزء من الاندماج بالمجتمع الدولي ولا تتعلق بالدفاع عن الوطن، تلك هي مهمة تقديم الخدمة في مناطق التوترات الخارجية مثل المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية.
عسكرة المجتمع:
العسكرة (militarization) هنا هي غير العسكرتارية، فالعسكرتارية (militarism) هي حكومة العسكر، او " سلطات الجند وهي مظهر عسكري للحكم الاستبدادي، من أشكاله الاجتماعية والتاريخية: هيمنة الجند على السلطة المركزية دون تحمل مسؤولياتها مباشرة.- كما وان من مظاهرها– سيطرة الجيش على مؤسسات الدولة الاخرى، لاسيما التشريعية والاجرائية والقضائية، بإنقلاب، وسرعان ما يسمى ثورة او حركة انقاذ او خلاص...الخ " (خليل احمد خليل، 275) ، واما العسكرة فهي عملية إلباس المجتمع لباس العسكر وتحويل وتنميط سلوكه الى سلوك عسكري يختلف عن الطابع المدني او العادي في الغالب. وتكون لذلك دوافع وتبريرات تتلخص في ظاهرها بالاستعداد لمواجهة خطر عدوان خارجي يهدد البلد، وفي باطنها احكام السيطرة على افراد المجتمع وتنظيمهم بهذه الطريقة بغية تحقيق خضوعهم الكامل وسهولة انقيادهم. للطغمة الحاكمة.
ويتم تغليب الايديولوجيا العسكرية في انساق الدولة وانماط الحياة العادية. وهناك نماذج عديدة لهذا السلوك يرجع بعضها الى ما قبل الميلاد، ولنا بنموذج دولة سبارطة العسكرية في اليونان مثالا جيدا.
وتعد العسكرة أحد أوجه وحلقات الانظمة الشمولية كما يرى الدكتور عبد الله ابراهيم، حين " تبدأ عسكرة المجتمع في كل مرافق الحياة، فيختزل وجود المجتمع، والايدولوجيا، والتاريخ، والمصير، بشخصية القائد، الذي تمركزت الامور كلها حول شخصه، فصار الآخرون يتماهون رمزياً به في كل تصرفاته، فيقع استشفاف كامل بينه وبين شعبه وامته وتاريخه، وقد عبر (هس) نائب (هتلر) اكثر من مرة عن هذا التلازم، حينما كان يقول للالمان (هتلر هو الحزب، والحزب هو الشعب، والشعب هو المانيا) (د. عبد الله إبراهيم، مفكرة السرد). وبهذا فالعسكرة هي نسف للديمقراطية ان وجدت او هي من النماذج النظمية المناقضة للديمقراطية، باعتبار القيود ومصادرة الحريات التي تمارسها والتي تلوث اجواء الديمقراطية، بل تخنقها فتميتها. "وقد ارتبطت الديموقراطية على الدوام بالقوى المدينية (من المدينة) بينما ارتبطت عسكرة المجتمع بالريفيين الذين وجدوا في الانتساب إلى الجيش الطريقة المثلى والأسرع للارتقاء في السلم الاجتماعي ومن ثم السياسي." (نهاد سيريس، عنف الثقافة الريفية) وقد عانى المجتمع العراقي من ظاهرة العسكرة هذه، حيث بدأت ارهاصاتها مع الرغبة في تحول حكم العراق الى الحكم العسكري، وذلك حين حدث اول انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة، الا وهو انقلاب الجنرال بكر صدقي عام 1936. بل تم تصدير هذه "البدعة" الى البلدان العربية سواء بايد عراقية كما فعل الضابط العراقي جمال جميل "الذي أعدم في العاصمة اليمنية صنعاء عام 1948 علي اثر فشل المحاولة الانقلابية التي قادها بعد اغتيال الإمام يحيي في شباط (فبراير) عام 1948" (سيف الدين عبد الجبار، المشكلة في النزعة العسكرية وليس في المؤسسة العسكرية)
ومن الطريف ان تكون جذور التجنيد الاجباري في المنطقة قد بدأت في العراق منذ عهد حمورابي "سادس ملوك بابل الاولي فقد اولي الجيش عناية خاصة فجعل الخدمة العسكرية اجبارية علي المواطنين وعبر عن الخدمة في الجيش بمصطلح (الذهاب في حملة الملك) اي المشاركة في الحملة العسكرية التي يأمر بها الملك" (فيصل شرهان العرس، رحلة الجيش العراقي من آشور الي بريمر(2)، جريدة (الزمان) --- العدد 1725-1726 --- التاريخ 2004 - 2 - 7/8.)
وبالنسبة لتاريخ الدولة الاسلامية على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، الوالي الاموي على العراق (694 م – 714 م)، وفي العصر الحديث على يد مدحت باشا والي بغداد العثماني (1869-1872).
في عام 1941 وقعت محاولة مجموعة من ضباط الجيش بالتعاون مع رشيد عالي الكيلاني باحداث انقلاب. وقد فشل هذان الانقلابان، الى ان حدث انقلاب عام 1958 الذي أطاح بالحكم الملكي في العراق واقام النظام الجمهوري. ومع محاسن هذا النظام و(كارزمية) قائده (الزعيم عبد الكريم قاسم) الا انه مهد الارضية لحكم العسكر ومن ثم عسكرة المجتمع ككل. حيث ان عسكرة المجتمع مرتبطة الى حد كبير بعسكرة السلطة.
وقد كانت نهاية الزعيم عبد الكريم قاسم بانقلاب عسكري كما هو معلوم قاده تحالف مجموعة من الجنرالات بقيادة زميله السابق عبد السلام عارف وحزب البعث المتطلع الى السلطة وذلك في عام 1963. وقد انقلب العسكر لاحقا على البعثيين حتى عاد هؤلاء بانقلاب عسكري آخر قاده الجنرال احمد حسن البكر في عام 1968.
لقد كان ارث وصيت "العسكرية" في العراق سيئاً حتى في حالات السلم. ففي فترة التجنيد الاجباري ابتداءا من عهد مدحت باشا وما تلاه وصولا الى عصر الانقلابات العسكرية ومرورا بالعهد الملكي. كان التجنيد الاجباري كابوسا ثقيلا على الكثير من العراقيين وخاصة ابناء الارياف منهم. فهم يتهربون منه اشهد الهرب وبمختلف الوسائل. منها مثلا اخفاء البيانات الحقيقية لابنائهم الذكور او عدم ذكرهم في تعدادات السكان التي تجرى مرة كل عشر سنوات تقريبا. او باعطاء الرشاوي لمتتبعي الهاربين من الجيش من اجل تجاهلهم او اعفاءهم منها لاسباب صحية او اجتماعية.
مما نتذكره مثلا من الفترة القريبة (في نهاية السبعينات) وقت كنا صغارا نقف مع المودعين من الأهالي حينما يساق ابناءهم الى الخدمة العسكرية فتقف الامهات تبكي وتتأسى على حالهم وفراقهم. وتقال الاشعار والاغاني الشعبية على السن الامهات والتي تحمل مضامين الابتعاد وملاقاة المصير المجهول والمنفى وغيرها. إنما هذا ناتج عن امور كثيرة من بينها: الصورة النمطية للجيش من انه استعباد واذلال للفرد، والتي تؤكدها الاساليب التعسفية والمهينة التي تطبق في الجيش العراقي فعليا. وقلة المردود المادي الذي لا يعوض المجند ولا اهله عن فقدان عمله الاصلي الذي يؤمن قوت اسرته. وبعد مكان خدمته، وطول الفترة التي سوف يبتعد فيها، وعدم اقتران التجنيد في الجيش بخدمة الوطن الحقيقية. وان معظم الحروب التي كانت تحصل سواء في عهد الدولة العثمانية او ما تلاها كانت لاغراض طائفية او فئوية محضة. بينما كان الرجال ينخرطون طواعية في خدمة الوطن حين يشعرون بتهديد حقيقي او متى ما اقتنعوا بذلك ولا يلتفتوا الى الامور الطائفية. ومثال هذا قتال ابناء الشيعة طواعية ضد القوات البريطانية دفاعا عن الدولة العثمانية في فترة الحرب العالمية الاولى (1914- 1918). او اشتراك الاكراد في القتال في مختلف معارك الجيش العراقي سواء على حدود العراق او خارجه (مشاركات الجيش العراقي دفاعا عن فلسطين).
وبالمقابل يجب ان لا ننسى جانبا آخر من هذا الموقف تجاه التجنيد وهو صعوبة تطويع الشخص البدوي او الريفي ورفضه الخضوع بهذه الطريقة وحبه لممارسة حريته بالطريقة التي اعتاد عليها. وبهذا لربما يضيق مفهوم الوطن لديه ويقصر تضحياته على قبيلته او منطقته.
مظاهر عسكرة المجتمع العراقي:
قبل إنقلاب " 14 تموز (يوليو) 1958 كان الجيش العراقي يتكون من اربع فرق عسكرية قوامها 60 الف جندي وكان حينذاك عدد سكان العراق في عام 1957 نحو خمسة ملايين نسمة اي انه كان من بين كل الف نسمة من الجنسين ومن كل الاعمار نحو سبعة عشر عسكريا عراقيا. بعد الانقلاب اخذت الحكومات المتعاقبة تبدي اهتماما متزايدا بالجيش من حيث الاعداد والتسليح انطلاقا من ان رؤساء تلك الحكومات كانوا في غالبيتهم من العسكريين.. لكن تاريخ العراق يشهد وبشكل ملحوظ انه بعد عام 1968 بدأت عمليات مبرمجة لتسييس الجيش العراقي.. وفيما ارتفع عدد سكان العراق الي ثمانية ملايين كان عدد الجيش يزداد باضطراد فوصل الي خمسة وسبعين الف جندي فتجاوز افراد الجيش نسبة السكان وهي جندي لكل 15 الف نسمة. وابتدأ فصل جديد حينما اقفل البعثيون بداية المواقع الحساسة والوزارات امام عموم الشعب فاصبحت بالتدريج لا يدخلها الا البعثيون او المنتمون الي الحزب مهما كانت درجاتهم وتحول الجيش بعدها الي اداة بيد القيادة الحزبية.. واصبح تسييس الجيش مهمة اساسية فازيح وأبعد وسجن واعدم الكثيرون من ضباطه الاكفاء من اصحاب الخبرات.
(مثني الطبقجلي، قصة الجيش العراقي وسقوط صدام (1-3)، جريدة (الزمان) --- العدد 1679 --- التاريخ 2003 - 12 – 8)
وبهذا اتضح أمر ادلجة الجيش العراقي وتوجيهه عن وجهته الاصلية والاغراض التي يفترض ان يكون الجيش قد أنشأ من اجلها. وتشير الدلائل الى " إن نزعة عسكرة المجتمع العراقي لم تكن وليدة الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 التي شنها النظام، وإنما بدأت مع وصول حزب البعث للسلطة إثر انقلاب 1968 فقد جرى توسيع القوات المسلحة عددا وعدة ففي عام 1970 كان 3% من القوى العاملة مستخدما في القوات المسلحة في 1980 ارتفعت هذه النسبة إلى 13% وعند توقف القتال مع إيران في 1988 كان عدد القوات المسلحة مليون شخص أي بنسبة 21% من القوى العاملة".( هاشم نعمة، دور الغرب في بناء الماكنة الحربية للنظام العراقي)
الانفاق العسكري:
تضاعف الانفاق العسكري للعراق منذ تسلم البعث السلطة عام 1968 واستفرد بها ففي عام 1970 انفقت الحكومة العراقية اقل من بليون دولار لاغراض الدفاع او ما يعادل 4.19 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي وارتفع هذا الرقم الي 1.3 بليون دولار عام 1975 اي نحو 8.22 من الناتج المحلي الاجمالي وتضاعف هذا الرقم عام 1980 الي 8.19 بليون دولار اي ما يعادل 8.38 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي.
استنزف هذا الانفاق العسكري الهائل ما يعادل 75% في المائة من الايرادات النفطية وانفق النظام في السنوات اللاحقة اضعاف ما انفقه لتمويل الحرب ضد ايران. وهكذا شهد عام 1980 ارتفاع نفقات العراق العسكرية 6 و4 بليون دولار ووصل عام 1983 الي 1.25 بليون دولار وقفز الي 3.25 بليون دولار عام 1984.
وباختصار لا نريد الخوض بمزيد من التفاصيل حول ذلك غير ان هذه الارقام تجاوزت ما يعادل 119 بليون دولار وفي الوقت الذي بلغ متوسط النفقات العسكرية نحو 9.23 بليون دولار سنويا كان متوسط عائداته النفطية 2.14 بليون دولار اي ان متوسط العجز كان 7.9 بليون دولار وهذا الفارق بين النفقات العسكرية والايرادات النفطية قد عوضته الدولة عن طريق قروض وديون من دول خليجية ساعدتنا ليس حبا في النظام ولكن لتبعد نزعة الشر وتوجهها الي ايران وهكذا وعن طريق السحب الكامل من الاحتياطات العراقية البالغة نحو 53 بليون دولار سنة 1980 افلس العراق واصبح مديونا ومثقلا بها وتوقفت تبعا لذلك خطط التنمية وبدلا من مراجعة العراق لاوضاعه بعد خروجه من الحرب مع ايران توقفت عام 1988 غزا الكويت ودخل في حرب أخري مع امريكا والتحالف اطلق عليها حرب الخليج الثانية فكانت ضربة قاصمة للاقتصاد العراقي وجعل من هذا الاقتصاد مشلولا وتدني معدل دخل الفرد من اربعة الاف دولار عام 1980 الي اربعمائة دولار مطلع عام 2003. (مثني الطبقجلي، قصة الجيش العراقي وسقوط صدام)
لقد حاول صدام حسين تحويل المجتمع العراقي الى ثكنة عسكرية بمعنى الكلمة. وذلك ابتداءا من تكديس السلاح الى تجنيد المواطنين واحكام القبضة عليهم بغية تطويعهم وسهولة اخضاعهم وصولا الى تحقيق طموحاته واشباع رغباته المريضة.
وقد تجلت المظاهر والاثار السلبية لعسكرة المجتمع والدولة العراقية بالاشكال التالية:
- الانفاق الكبير على التسلح والخدمات العسكرية: " فإذا قارنا استيراد العراق من الأسلحة طيلة عشرين سنة من 1951- 1970 نجده لا يتعدى 787 مليون دولار في حين ارتفع هذا الرقم إلى 7.6 مليار دولار في الفترة 1971- 1980.وخلال الحرب مع إيران استورد العراق أسلحة ومعدات عسكرية بلغت قيمتها 102 مليار دولار وأستثمر النظام موارد ضخمة في تطوير الصناعة العسكرية وإنتاج أسلحة الدمار الشامل. في عام 1970 كان النظام ينفق على القطاع العسكري اقل من مليار دولار أي 19% من الناتج المحلي الإجمالي وهي من أعلى النسب في العالم. وفي عام 1975 أرتفع الإنفاق العسكري إلى ثلاثة مليارات دولار.وبحلول 1980 كان الإنفاق العسكري قد بلغ 20 مليار دولار. ثم باتت النفقات العسكرية تمتص ما بين نصف وثلثي الناتج المحلي الإجمالي خلال الثمانينات. أما إذا حسبنا الإنفاق العسكري كجزء من إيرادات النفط سنجد أن الإنفاق العسكري قد بلغ مجموعه خلال 1980- 1985 حوالي 120 مليار دولار أي 256% من إيرادات النفط التي لم تتجاوز 47 مليار دولار. لذلك لجأ النظام من أجل سد العجز إلى السحب من احتياطي العراق من العملة الصعبة والاقتراض من الخارج بالإضافة إلى مساعدات دول الخليج وجرى التخلي عن برامج التنمية وتقليص الاستيراد المدني والخدمات الاجتماعية. وهكذا بلغ الأنفاق العسكري أرقاما فلكية لا سابق لها مما أدى إلى إعاقة التنمية الاقتصادية ومهد الأرضية لمغامرات عسكرية كارثية دفع الشعب العراقي جرائمها ثمنا باهضا وأدت إلى ارتهان سيادة وموارد البلد لآجال لا تعرف حدودها.( هاشم نعمة)
- طول فترة الخدمة العسكرية سواء الالزامية او التطوعية: حيث وصلت الخدمة الألزامية لبعض المواليد خاصة 1957- 1960 الى حوالي 13 سنة تقريبا. حيث صادفت حرب ايران التي استمرت 8 سنوات وما تبعها من حالة ما يشبه الحرب. وبالنسبة للمتطوعين فانها تعدت 25 او حتى 30 سنة لدى البعض خاصة نواب الضباط منهم الذين يعانون من النظرة السلبية تجاههم ذلك نتيجة لموقعهم في السلم الرتبي للجيش وطبيعة الدور الوسيط عادة بين الجنود والضباط. وقد التصق بهم لقب "(جولة chole) وهي جهاز الطبخ النفطي الشائع في الوحدات العسكرية او بيوت ذوي الدخل المحدود من العراقيين عادة. والمقصود هنا الوصف الدقيق لهذه الاداة التي هي عادة غير آمنة، وهناك احتمالات كبيرة لان تسبب حرائق في اماكن وجودها، لذا يتوجب الحذر في التعامل معها. وهذا يختصر طبيعة عمل (نائب الضابط) الذي عادة ما يتسبب بعقوبة الجندي غير المنضبط، او الذي لا يطيع الاوامر الطاعة العمياء. او لما عرف عن الكثير منهم من فساد اداري يتمثل بالرشوة والمحسوبية وغيرها ومنهم من هو في الغالب اداة وسيطة للضباط في هذا الفساد الاداري. وهذه الامثلة توضح طبيعة الحياة الداخلية للجيش العراقي في الفترة المنصرمة. ولا شك ان هذه النماذج السلوكية تلقي بظلالها على حياة وسلوك هذه القطاعات العريضة من الشعب وعلى اسرهم. كما وتؤثر الى حد كبير في تحديد طبيعة سلوكهم المستقبلي وفقا لهذه التجارب السلوكية الطويلة التي عاشوها.
- تعدد الاجهزة العسكرية وشبه العسكرية. الى جانب الجيش النظامي : منها الجيش الشعبي الذي بلغ مجموع افراده واكثريتهم ادخلوا قسرا في معسكرات تدريب بلغ مليونا وثلاثمئة وستين الفا فيما كان عدد نفوس العراق ثلاثة عشر مليونا ونصف المليون نسمة. اي انه كان هناك 100 من الافراد يعملون في الجيش من بين كل الف نسمة وعند وقف اطلاق النار مع ايران عام 1988 بلغ عدد افراد الجيش والمليشيات والاجهزة الامنية نحو مليونين ونصف المليون في بلد تعداد نفوسه 18 مليونا فاذا استثنينا الاناث فان هناك ما مجموعه 278 شخصا يعملون في المجهود الحربي والامني مقابل كل الف وهذه ارقام غير طبيعية اثرت بشكل مدمر علي قوة العمل مما ادي الي الاستعانة بأيد عاملة اجنبية استنزفت العملة الاجنبية. (مثني الطبقجلي، قصة الجيش العراقي وسقوط صدام)
وقد كان الجيش الشعبي عبارة عن ميليشيات شبه عسكرية تتلقى التدريب من العسكريين ويتولى ادارتها البعثيون الكبار. كان مقتصرا على البعثيين اولا ثم توسع ليشمل كل مواطن يقع تحت الطائلة، او حتى من يراد ابعاده عن عائلته او التخلص منه في جبهة القتال (ابان فترة الحرب ضد ايران خاصة). وقد كان الجيش الشعبي رمزا لعدم الانضباط وسرعة الانهيار والانهزام في الحرب (يوصف بأنه دجاج مصلحة) اي الدجاج المستورد عادة والذي يربى في اجواء مكيفة، عكس الدجاج المحلي الذي يقاوم كل الظروف المحلية. وقد وقع جراء ذلك الكثير من الضحايا الذين جندوا فيه كجيش رديف في الحرب المذكورة.
- اعطاء صلاحية اكبر للقادة العسكريين، منها تعيينهم محافظين مثلا بعد ان قضوا فترة كحكام عسكريين للمحافظات والاقاليم العراقية عقب فشل انتفاضة عام 1991 ضد النظام. وقد توسعت هذه الاطر بتعيين القادة العسكريين المسرحين من الجيش في مناصب في اللجنة الاولمبية والتصنيع العسكري والشرطة وغيرها. كما تطور الامر بتعيين البعثيين المسرحين من الخدمة العسكرية (أغلبهم نواب ضباط) بمهمة (مختار محلة). وهو ما عزز الوجود العسكري في الحياة اليومية نتيجة الاحكام العرفية وتطبيق النسق العسكري في الادارة المدنية، الامر الذي كرس الكثير من مظاهر التخلف فيها، نتيجة عدم خبرة العسكر في هذا الجانب الحيوي من حياة المجتمعات والذي يعد العاملون فيه مسبقا بعد دراستهم التخصصية وتلقيهم مختلف العلوم الادارية والقانونية عادة.
- عسكرة الصناعة والزراعة والثقافة وغيرها. حيث جرى ابتكار هيئات بل وزارة للتصنيع العسكري وتم تحويل الكثير من العلماء والملاكات الصناعية المدنية الى هذه الوزارة والمؤسسات العسكرية الاخرى، الامر الذي اضر بالصناعات المدنية الاخرى، بل اظهرت عجزها في الكثير من المتطلبات البسيطة التي يفترض ان تؤديها في بلد بلغ مرحلة معقولة من التطور في الصناعة الحربية. وطالما كانت هذه الظاهرة مثار سخرية الكثير من العراقيين. حيث يتساءل الكثير بتعجب " هل يعقل اننا نصنع صاروخا وفي نفس الوقت نعجز عن صناعة مصباح مثلا". كما تضررت الزراعة بنفس الوتيرة ولم تجد معها نفعا محاولات (عسكرتها) حيث انشأت شركات استصلاح زراعي او انجاز مشاريع اروائية. ومما يجدر ذكره ايضا ان هجرة الكثير من ابناء الريف الى المدن نتيجة تجنيدهم في الخدمة العسكرية ساعد على توسيع نطاق المدن من خلال التوزيع التعسفي للأراضي السكنية عليهم والذي جاء على حساب مساحات زراعية او صالحة للزراعة، او يمكن جعلها فضاءات صحية وترفيهية في المدن. يضاف الى هذا الازدحام السكاني في مختلف المدن العراقية، وما ترتب عليه من صعوبة او ضعف الخدمات المقدمة بصورة عامة. ومعلوم ان النتيجة الطبيعة للعسكرة هي تخلف البنى الحياتية والحيوية الاخرى ولنا في كوريا الشمالية مثال حي ايضا. حيث ان العسكرة تأتي على حساب قطاعات اخرى من الحياة كما اشرنا وذلك بتوجيه الانفاق على المظاهر العسكرية.
والمفارقة ان العراق كان ينتج حوالي 80 بالمئة من حاجته الغذائية في بداية استلام حزب البعث للسلطة وتحديدا حتى عام 1972، وقد اختلت الآية خلال فترة السبعينات والثمانينات حتى إنقلبت المعادلة فصار العراق يستورد 80 % من حاجته قبيل اجتياحه الكويت عام 1990. وذلك حسب تقييم ومراجعة المسؤولين العراقيين عشية فرض الحصار على العراق في تلك الفترة. اي ان هذه الازمة وهذه المفارقة حاصلة قبل فرض الحصار.
ولا شك في ان اسبابها واضحة وهي الاهتمام بالتسلح على حساب قطاعات الحياة الاخرى، هذا اضافة الى التفريط بالمال العراقي الذي لم يكن هناك تمييز بينه وبين المال الخاص لحاكمه الذي بالغ في بناء القصور وتوزيع الهبات على بلدان وتنظيمات حزب البعث التابعة له في خارج العراق وغيرها من الاطراف التي اقام معها صلات مشبوهة تخدم اغراضه الشخصية.
- إلباس المدني لباس العسكري:
إذ تم منح الكثير من الاشخاص المدنيين الذين يتمتعون بمؤهلات علمية رتبا عسكرية مثل الاطباء والوزراء التكنوقراط، والمهندسين والاعلاميين وغيرذلك. الامر الذي يعني عسكرة سلوكهم المهني والحياتي من جانب واخضاعهم لسلم (الطاعة) التسلطي الذي يرغبه رأس النظام محاولة ترويضهم وتطويعهم نتيجة هوسه بالهاجس الامني وريبته المستمرة حتى باقرب المقربين منه.
- مكاسب مادية لفئات من العسكريين على حساب فئات المجتمع الاخرى. مثال على الامتيازات المادية المعنوية وبعض اشكال الحصانة التي يحظى بها ضباط الجيش مثلا، شاع مثل في اوساط الشابات العراقيات في الثمانينات يقول " لو ملازم لو مالازم " اي إما ملازم - ضابط في اول مراحله العسكرية- او لا). ذلك لما كان يحصل عليه هؤلاء من امتيازات مادية ووجاهة في الاماكن العامة تكون مفروضة او معززة بامتيازاتهم التي تتجاوز على القانون حقوق المواطن العادي. ان هذا التفاضل يخل بالعدالة الاجتماعية ومعايير التقييم الصحيحة التي يبنى على اساسها البلد، كاعطاء الاعتبار الاكبر للعلم والمتعلمين مثلا.
- تلقين المفاهيم العسكرية للتلاميذ. حيث شاعت الشعارات والاناشيد التي تمجد الحياة العسكرية ومظاهرها، كما ان هناك تقليد اسبوعي يتم تطبيقه في المدارس الابتدائية والثانوية والمهنية يتمثل بإطلاق الرصاص في الاصطفاف الاسبوعي للتلاميذ. ويدرب الطلبة (بنين وبنات) عادة على تنفيذ هذه الممارسات. ويتم بث وتجريع الروح العسكرية وتشريبها لهؤلاء التلاميذ اضافة الى تلقينهم مقولات وترهات راس النظام صدام حسين، حيث يلزم التلاميذ بحفظ مقولات نابعة من قيم بدوية ومفاهيم قبلية تنشئ الجيل الجديد على سلوك التنمر العدواني، والبعيد عن المفاهيم الحضارية والانسانية عادة.
لقد بينت بعض الدراسات والاستطلاعات نماذج من هذا المأزق الحقيقي ومنها مثلا ما نشرته جريدة الصباح البغدادية:
طلبت المعلمة من تلامذة الصف الاول والثاني الابتدائي سرد قصة أو حكاية قصيرة فقام التلميذ جعفر حاتم بسرد حكاية: ” أندلعت الحرب ومات الناس جميعاً وساح دمهم وضرب الجندي الولد بالقنابل وصعدت الدبابة على راسه....الخ “. أما زميله زيد الدين علي فاخبرنا بقصة الولد الذي وضعوا في جيبه المتفجرات وقنبلة يدوية وفجروه معها واصبح قطعاً صغيرة من اللحم...... مؤكداً ان هذه القصة من نسج خياله في حين انها احدى الصور التي وضعت في الاقراص المدمجة (CD) التي تعرض حالات التعذيب للنظام السابق ووقع ذهنه تحت تاثير مشاهدها. وحينما طلبت المعلمة من التلميذ تغيير القصص والتكلم عن الحيوانات والازهار والاشجار بادر التلميذ يوسف سليم قائلاً :ـ ”يوجد خروف في الغابة وكان وديعاً لكنه تحول الى ذئب وصار وحشاً وأكل أمه وأخوته وأخرج الدم منهم ثم استدرك بنحو مفاجئ..لكن الدم الذي سال على الارض تحول الى ماء يسقي الوردة “. هنا نجد.. ان الطفل يتنازعه الشر والخير فعلى الرغم من محاولة الاطفال اسباغ العنف والرعب في قصصهم تظل بذرة الخيرموجودة لديهم ، فهم يتمنون ان تنتهي قصصهم نهايات سعيدة لكن صور العنف التي ترسخت في اذهانهم تغطي عليها. ومن المفارقات التي حدثت بعد العمليات العسكرية ان وكالات الانباء العالمية تناقلت صوراً لما يرسمه الاطفال العراقيون على الجدران والارصفة من لوحات لا تخلو من مشاهد القتل والدمار والعدوانية، ومن هنا طلبنا الى بعض التلاميذ ان يرسموا لنا ما يحلو لهم من رسوم فرسموا ما توقعناه أسلحة، وقتلى، وهاربون من أسلحة مصوبة باتجاههم. ومن خلاصة عدة زيارات ومشاهدات وجدنا ان اكثر من 90% من التلاميذ يميلون الى القصص والاحداث العنيفة والعدائية متأثرين بما كان يعرض على شاشات التلفزيون واحداث الحرب الاخيرة. (جريدة الصباح البغدادية، صفحة التحقيقات، الاحد 30- 11- 2003)
ان الصورة المعروضة اعلاه هي بالتأكيد اسقاطات للأوضاع الاجتماعية على شتى الاصعدة والتي عاشها الاطفال العراقيون. فالتربية العسكرية، وشيوع لعب الاطفال التي تمثل ادوات حربية، ومشاهد الحروب والترويع واشكال التنكيل التي تعرض لها آباءهم وذويهم أو ما يسمعوه وما يشاهدوه من صور وقصص كلها لا شك تطبع طابعها وتترك أثرها على شخصياتهم، خاصة في مراحل الحياة الاولى. مضافا اليها ضعف او غياب دور الاب او كلا الوالدين عن الابناء نتيجة للغياب الطويل جراء التجنيد في الجيش او المشاركة في جبهات القتال او الاسر (الجدير بالذكر ان بعض اسرى الحرب العراقيين امضوا ما يقارب 20 سنة في ايران). او نتيجة التغييب القسري التي مارسها النظام للكثير من العراقيين في مقابر جماعية او سجون او منافي مختلفة (بلغ عدد المهاجرين والمهاجرين العراقيين حتى مرحلة سقوط نظام صدام في ابريل عام 2003 حوالي 4 ملايين شخص معظمهم مفترقين عن اسرهم قسريا).
تكريس المفاهيم والقيم العسكرية، (من خلال الاغاني وغيرها ومختلف وسائل الاعلام الاخرى)، والتي عكرت المزاج النفسي لكثير من العراقيين، إذ تصادر حرياتهم وذائقتهم من خلال فرض هذه البرامج التعسفية في ظل محدودية وسائل الاعلام الاجنبية واقتصارها على الراديو، وفي ظل احتكار النظام لوسائل الاعلام العراقية وتوجيهها وتقنينها لصالحه ومصادرة الراي الاخر او حتى مصدر المعلومة والترفيه للمواطن العراقي. حيث منع امتلاك الستالايت الامر الذي جعل العراقيين محرومين من نعمة الاطلاع على اخبار العالم من مصادرها المختلفة والاستمتاع بما تعرضه قنوات العالم من مختلف البرامج الترفيهية والخبرية والعلمية.
الآثار السلبية لعسكرة المجتمع العراقي:
بالاضافة للنتائج المذكورة اعلاه والمتداخلة مع مظاهر العسكرة هذه فإنه قد برزت آثار وتداعيات سلبية يمكن رصد ابرزها بالشكل التالي:
- توتر المزاج العام للمجتمع وسرعة الاستثارة بسبب الحالة العسكرية. وثقافة العنف والقتل التي تشبع بها الشباب جراء تعايشهم مع الحروب والتنازع واسلوب استخدام القوة واستعراضها. وقد تزاوجت هذا التوتر والمزاج مع المفاهيم والقيم القبلية ذات الجذور البدوية الشائعة الى حد كبير ولو بدرجات متفاوتة بين مناطق العراق الجغرافية او من الريف الى الحضر او المدن. (راجع طروحات عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي في معظم مؤلفاته، حيث يؤكد على تغلغل قيم البداوة في الشخصية العراقية).
هذا إضافة الى الحالة النفسية المتوترة جراء تسخيرهم (الجنود) التعسفي في حروب لا يرغبوها وغير مقتنعين بها في الاغلب. وسوقهم بالقوة وتهديدهم بمواجهة حكم الاعدام في حال تخلفهم او هروبهم من الخدمة العسكرية، او مواجهتم لعقوبات مهينة للكرامة الانسانية بصورة عامة مثل قطع الاذن او الوشم على الجبهة في حالة هرب الجندي. علما ان هذا النوع من العقوبات طبق في ظرف غير الحرب وذلك في عام 1994. كان الجنود يواجهون ظروفا معيشية وانسانية صعبة تتمثل بالاضافة الى سوقهم الاجباري في ظروف معيشية صعبة ومتقشفة، حيث قلة الرواتب التي تدفع لهم (حوالي 3 دولارات في الشهر) يزيد من مرارة وضعهم المادي هذا الفساد الاداري الذي اشرنا اليه، حيث يتم ابتزازهم من قبل بعض الضباط ونواب الضباط. وفي هذه الحالة فان هذا التازم سوف ينقله الجنود لاسرهم والشارع العراقي، خاصة وان نسبتهم كبيرة قياسا الى عدد السكان. وهكذا فانه في كثير من الاحيان عندما تمر بشارع او حي سكني من الاحياء الشعبية خاصة، فنك ستواجه او تسمع عركة (شجار) بين شخصين يتدخل على اثرها آخرون ولاسباب تافهة في الغالب. وهو مؤشر هام على ارتفاع مستوى العنف والاستعداد له وسيادة انماط من السلوك العدواني.
- فقدان فرص التعليم لكثير من الشباب، حيث حاجة الحروب الى وقود وان وقودها هم البشر وهم العسكريون الشباب خاصة، فانه قد تم تجنيد الشباب العراقيين على وتيرة كبيرة حال اكمال الشاب لعمر 18 سنة، ممن (تزال أعذاره)** فانه يساق الى الخدمة الالزامية وبخلافه يواجه الموت وتواجه عائلته اقسى انواع العقوبات والذل والتمييز، وقد جرت (قوننة) هذه الاجراءات بحق الاسر وحتى في حالات غير الحرب (لا سلم ولا حرب عادة ) عاشها العراق مثل فترة التسعينات من القرن الماضي، حيث تم حرمان العوائل التي ينتمي لها الابناء الهاربون من الجيش من حقهم في الحصة التموينية الغذائية التي تمنح للاسر العراقية وفقا لمذكرة النفط مقابل الغذاء التي اقرتها الامم المتحدة. وعليه يكون الشاب ملزما بالالتحاق بسلك الجيش وبالتالي تضيق فرصه في الاستمرار في التعليم خصوصا اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار القرارات التي كانت لا تعطي فرصة الرسوب لاكثر من سنة واحدة حتى يساق على اثرها الشاب الى الخدمة العسكرية. وقد حاول الكثير من الشباب استنفاذ حقهم في هذا الرسوب فلم يكد الكثير منهم انهاء دراسته في الثانوية او المعهد او الجامعة دون ان يرسب بارادته ولو لسنة واحدة تلك السموح بها. حيث يؤخر التحاقه بالجيش تجنبا لويلات الحروب و" بهذلة وذلة " الخدمة العسكرية. بل المفارقة ان يتوسط بعضهم لدى اساتيذهم ومدرسيهم لكي يرسبوهم.
- تدني المستوى المعاشي بسبب توجهات الدولة العسكرية وانشغالها بالحروب. حيث زاد عدد العراقيين المصنفين تحت خط الفقر وغابت عن موائدهم مواد اساسية في الغذاء التي اعتادوا عليها سابقا او مقارنة نظرائهم من بلدان الجوار ممن تتشابه ظروفهم الاجتماعية وثقافاتهم الغذائية وامكانات بلدانهم الاقتصادية مع العراق.
- خلق جيوش من العاطلين عن العمل بعد تسريحهم، حيث يستبعد ان يكونوا قد تعلموا حرفا تفيدهم في حياتهم المدنية. وما نشهده الان بعد حل الجيش ما هو الا مثال حي على هذه الازمة التي سيعاني منها العراق لمدة ليست بالقصيرة.
- تدني الذوق العام، حيث الاوضاع السيئة للجنود في ثكناتهم وفي خطوط الجبهة ابان فترات الحروب وضعف المستويات التعليمية والتثقيفية لمعظمهم كرس انماطا سلوكية وذوقية عامة تتعلق برداءة المظهر العام لدى الكثير منهم وتدني مستوى الذوق في نوعية وطريقة الاكل فضلا عن الجهل بالاتيكيت والبروتوكول العام للعلاقات الاجتماعية.
فقد يأكل الجندي نوعية من الاكل او الشرب رديئة جدا وغير صحية، ولا يجد في ذلك حرجا. ولا يبالي بعواقبها الصحية، ويقول لك (لقد اكلنا اسوء من هذا في الجبهة او الكمين، او في فترة محاصرتنا او انقطاعنا في الحرب او الربية العسكرية على قمة الجبل بل قال احدهم انه شرب بوله في مثل تلك اللحظات لعدم توفر الماء، والبعض اكل طيرا او حيوانا ميتا). والامر لا يتعلق بطرائق ونوعيات الاكل والشرب فقط فالملبس والمأكل والجلوس وغيرها[...]وحين استغرابك لفعلته هذه يجيبك الجندي بان هذا المكان افضل من الموضع العسكري الذي ينام فيه او يحرسه. كما ان هناك سلوكيات شائعة للكثير من العسكريين لا تبالي بالذوق العام في الشارع والاماكن العامة لنفس الدواعي.
كما ان الكثير من الجنود لا يبالون بانتقاد ونظرة الاخرين، بل لا يبالي البعض منهم بتلقي الاهانة او التوبيخ في حالة ان يكون مصدرها اعلى منه جاها ومنزلة وذلك لانه تعود الاذعان للقوة الارفع وانطلاقا من قاعدة "من يهن يسهل الهوان عليه" ذلك انه تعود تلقي الاهانة من (الما فوق) في الجيش...
يصف المؤرخ العراقي الدكتور سيار الجميل مرحلة الخدمة العسكرية لدى أي عراقي بأنها أقسى فترة من حياته حيث يجد فيه كل الهوان والاذلال والكلمات الجارحة التي قد يصل بعضها الى حد الضراوة في سحق الكرامة واهانة الذات عند الانسان، وخصوصا اذا كانت له عزته وانفته وحقوقه وقوة شكيمته ومحتد اصله في العيش والحياة والوجود". (د. سيار الجميل، المدينة العراقية: زحف التناقضات بين ضراوة الدولة وارتباكات المجتمع، جريدة ايلاف الالكترونية، الخميس 4 – 12- 2003).
المثقفون والنخبة في مواجهة آثار العسكرة:
وبعد انهيار الدكتاتورية وهزيمتها المذلة في العراق، فإن الامل يحدو العراقيين على ان يعيدوا بناء وطنهم ويلملوا جراحهم وينهضوا من جديد لبناء بلدهم. وان على المثقفين والطبقة المتعلمة منهم دور كبير يتطلب ان يلعبوه، ذلك هو البناء النفسي والاجتماعي القائم على اسس جديدة وثقافة جديدة تلك هي ثقافة التسامح ونبذ العنف واشاعة ثقافة القانون بدل سلوك التغالب. والنزاع السلمي بدل نظيره المسلح او الذي تسم بالعنف.
تجدر هنا الإشارة الى دور المفكرين على مر التاريخ ابتداء من سبارطة في اشاعة السلم حيث كانت سبارطة " أكثر المدن صراعاً وقتذاك والتي كانت تعيش موجة عنيفة من الاضطرابات السياسيّة، ونتيجة لهذه الصراعات نتجت حالات كثيرة من التصفيات الجسدية. (...) وفي ظل هذه الفوضى برز مفكرون حاولوا التأكيد على سيادة القانون على الجميع وأنه مبدأ فاعل في تنظيم المجتمع وأن الجميع ملزمون بإحترامه لأنه الضامن الوحيد لحياة سليمة، وقد تبنى هذه الدعوة رجال السياسة لليونان الكبرى من أمثال: تيتري )من أهل أسبارطة) وصولون من أهل أثينا، وزالوكوس من أهل لوكريس سنة 663 ق.م، وخارونداس من أهل كاتان سنة 036 ق.م، و دراكون سنة 126 ق. م حتى صرح هيرودوت في اواسط القرن الخامس قبل الميلاد بقوله - لا سيد علينا إلا القانون - وثلّة من الفلاسفة الكبار مثل فيثاغورس وهرقليطس وبقوله : - على الشعب أن يقاتل من أجل القانون كما يقاتل من أجل سور المدينة-. وأرسطو بقوله : - ليس هنالك من نظام يمكن تصوره خارج القانون-. وعلى كلّ حال فقد حاول جميع هؤلاء القيام بنهضة جريئة وعملاقة في تلك الأجواء الخانقة وأن يفرضوا تشريعاً عاماً على جميع المواطنين يحكم أصول الترافع لدى الجهاز القضائي وحفظ الحقوق الخاصة مثل الحقوق الأسرية والروابط الإجتماعية وأن ينظموا الاختصاصات التقليدية للمحاكم الموجودة بتنسيق صلاحياتها وأن يقيموا في النهاية ضرباً من التوازن بين الطبقات الإجتماعية المهمة بتوزيع المواطنين توزيعاً أكثر تناسباً في داخل هذه الطبقات وكذا الأعباء المدنيّة والمسؤوليات السياسّية". (http://www.al-asfoor.net/books/drasat-bohouth/syasa.htm)
إن العسكرة تقنن التفكير والحراك الاجتماعي وتقولب الحياة وفقا لمعايير تعتمد التمرتب المبني على استعباد ماهو ادنى مرتبة وهي نوع من العلاقات الاجتماعية الزائفة المبنية على اساس الخوف وليس على الاساس الوجداني والعاطفي. وان تنميط الانسان العسكري لمدة 30 عاما مثلا (كما هو الحال مع المتطوعين في الجيش العراقي ابان فترة حكم صدام حسين) او 13 عاما (مع المجندين اجباريا في العراق ايضا إبان تلك الفترة) لهي كفيلة بنقل مثل هذه الانماط او عقدها وآثارها النفسية والاجتماعية الى المجتمع العام او اسرهم، وبالتالي نقل امراضها معها.
والعسكرة تقتل الابداع ايضا لانها نمط من العلاقات مبني على الاسس القهرية وليس الرغبة الطوعية والروح الوطنية خاصة إذا ما كانت مرتبطة بنظام دكتاتوري فاشي يميز بين مواطنيه على اسس انتماءاتهم العرقية والطائفية والمناطقية والعشائرية وبالنتيجة لتوظيف كل هذا لغرض بقاءه في السلطة.
وعلى النخبة المثقفة في العراق توجيه دفة الحكم المقبل باتجاه تاسيس قيم وتقاليد بل ممارسات فعلية للديمقراطية وتنميتها من خلال المؤسسات التعليمية وافساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني لان تلعب دورا كبيرا في ذلك. تلك القيم التي تبنى على اسس مغايرة الى حد كبير لما هو سائد من قيم العنف والتعسف ومصادرة الآخر والتي ساهمت الديكتاتورية وعسكرة المجتمع في ترسيخها في الذهنية والممارسة الحياتية للمواطن العراقي. وعليه مطلوب مراجعة شاملة وباستمرار لهذه المنظومة القيمية ورصدها ومحاولة التأثير فيها في العمق، وان الحلول هنا ليست طوباوية بل هناك آليات تكفل النتائج المرجوة الى حد كبير.
ومن هذه الآليات:
الزامية التعليم ومدها الى مرحلة عمرية معقولة (16 سنة) مثلا ولكلا الجنسين وعدم التهاون في تطبيقه، وسن قوانين تجرم العنف بانواعه ومنه (العنف القيمي) ان صحت العبارة وهو العنف الاسري او القرابي والقائم على قواعد وقيم قبلية تتعلق بغسل العار والثأر واستخدام العنف تجاه الزوجة والابناء بحجة التربية مثلا وغيرها.
كما يتطلب الحذر الشديد ازاء اقحام الجيش في السياسة او تدخله، وعليه فاننا بانتظار مواثيق شرف يعلنون فيها التزامهم بالابتعاد عن التدخل في السياسة. اما فيما اذا رغبوا ذلك فعليهم نزع البدلات العسكرية والتقدم كمدنيين وطرح مشاريعهم ومشاركاتهم بطريقة ديموقراطية.
إن العراق اليوم على اعتاب مرحلة تتطلب البناء على قواعد علمية وقيم العدالة الاجتماعية والديموقراطية. ولا يتحقق ذلك دون جهود وتضحيات كبيرة مبنية على اساس من محاولة نسيان الماضي وأزماته والاستفادة من تجارب الامم الكبرى التي نهضت من حطام الحروب وويلاتها وبنت امجادها بجهود ابنائها وهي ليس ببعيدة عنا ومنها كل من ألمانيا واليابان اللتين خسرتا الحرب العالمية الثانية عام 1945، وكسبتا مستقبلا افضل لشعبيهما معلنتين نزع البدلة العسكرية وارتداء اللباس المدني او لباس العمل والذي جعلهما اكثر مهابة واحتراما الآن.
.........................
(*) استاذ جامعي وباحث انثروبولوجي مقيم في هولند
h.hashimi@lycos.com
الهوامش والمراجع:
..............................
** تزال أعذار الشاب في العراق ليلتحق بالخدمة العسكرية عندما يبلغ 18 عاما، ولايكون ملتزما بدراسة نظامية تابعة للدولة او موازية معترف بها، وان لايكون قد رسب اكثر من سنتين متفرقتين في مرحلته الدراسية (الثانوية مثلا)، او معاقا او مريضا بمرض عضوي او عقلي تقرر لجنة طبية عسكرية غالبا درجة عجزة عن أداء الخدمة العسكرية.
- جريدة الصباح البغدادية، صفحة التحقيقات، الاحد 30- 11- 2003.
- خليل احمد خليل، معجم المصطلحات الاجتماعية، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1995.
- د. سيار الجميل، المدينة العراقية: زحف التناقضات بين ضراوة الدولة وارتباكات المجتمع، جريدة ايلاف الالكترونية، الخميس 4 – 12- 2003.
- سيف الدين عبد الجبار، المشكلة في النزعة العسكرية وليس في المؤسسة العسكرية، مقال منشور في جريدة الزمان البغدادية، شباط 2001.
- فيصل شرهان العرس، رحلة الجيش العراقي من آشور الي بريمر(2)، جريدة (الزمان) --- العدد 1725-1726، التاريخ 2004 - 2 - 7/8.
- عبد الله إبراهيم، مفكرة السرد : السرد والايديولوجيات الشمولية – الكتابة والاستبداد- http://www.abdullah-ibrahim.com/
- (مثني الطبقجلي، قصة الجيش العراقي وسقوط صدام (1-3) - 3.25 بليون دولار قيمة النفقات العسكرية للعراق عام 1984 - ، جريدة (الزمان) --- العدد 1679 --- التاريخ 2003 - 12 – 8)
- نهاد سيريس، عنف الثقافة الريفية، السفير الثقافي، 28/7/2000.
- هاشم نعمة، دور الغرب في بناء الماكنة الحربية للنظام العراقي، ج4، مقال منشور في موسوعة صوت العراق www.sotaliraq.com.
- http://www.al-asfoor.net/books/drasat-bohouth/syasa.htm
..........................
مجلة علوم انسانية: العدد 7مارس 2004: