• الموقع: مركز آل الحكيم الوثائقي.
        • القسم الرئيسي: بانوراما.
              • القسم الفرعي: ثقافة ومجتمع.
                    • الموضوع: المواطنة وحكم القانون.

المواطنة وحكم القانون

المواطنة وحكم القانون

 

أ‌. د. عدنان ياسين مصطفى

 

 تعرّف دائرة المعارف البريطانية مفهوم المواطنة بأنها " علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة". وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، إذ تؤكد أن المواطنة تدل ضمناً على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات. وعلى الرغم من أن الجنسية غالباً ما تكون مرادفة للمواطنة، حيث تتضمن علاقة بين فرد ودولة إلا أنها تعني امتيازات أخرى خاصة منها الحماية في الخارج. وتذهب دائرة المعارف البريطانية إلى ان المواطنة على وجه العموم "تسبغ على المواطن حقوقاً سياسية، مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة". وهي بذلك تضمن للمواطن التمتع بالحقوق تجاه الدولة،كما تخول له امتيازات خارج دولته[1].

 وانطلاقا من هذا التعريف يعد الوعي بالمواطنة نقطة البدء الأساسية في تشكيل نظرة الإنسان إلى نفسه والى بلاده والى شركائه في صفة المواطنة من خلال توفير الحد الأدنى من حقوق المواطن حتى يكون للمواطنة معنى ويتحقق بموجبها انتماء المواطن وولاءه لوطنه وتفاعله الايجابي مع مواطنيه نتيجة القدرة على المشاركة الفعلية والشعور بالإنصاف وارتفاع الروح الوطنية لديه عند أداء واجباته في الدفاع عن الوطن، ودفع الضرائب، والمساهمة في صنع الحضارة. وان غياب حقوق المواطنة يؤدي إلى تداعي الشعور بالانتماء الوطني.

 وهنا لابد من الإشارة إلى أن وضع المواطنة يبقى ناقصاً في حالة عدم الاعتراف بأن حريات الأفراد بمفهومها الواسع هي حقوق لهم في مواجهة الدولة والمجتمع، يتحدد بموجبها الهوية الوطنية. وهي ليست مكاسب، يمكن للنظام السياسي أن يمنحها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء، فضلاً عن أهمية زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو القلة من الناس، وتحرير الدولة من التبعية للحكام، وذلك باعتبار الشعب مصدر السلطات وفق شرعية دستور ديمقراطي، ومن خلال ضمانات مبادئه ومؤسساته والياته الديمقراطية على ارض الواقع[2].

 إذا كانت المواطنة تمثل المشاعر التي يتمتع بها المواطن وبموجبها يتنازل عن مصالحه الخاصة من اجل الصالح العام، فإن هذه المشاعر تنمو وتترعرع عندما تكون الدولة عادلة في توزيع الثروات وحامية لحقوق الفرد المدنية والسياسية. وتلعب خدمات التربية والتعليم والأديان والأفكار الاجتماعية دورا محوريا في تنمية تلك المشاعر التي يعبر عنها المواطن بأشكال مختلفة: العمل الطوعي، والحرص على دفع الضرائب، والمشاركة في الانتخابات، وحماية الحق العام......

 ولكن في العراق اليوم، ثمة إشكاليتان تتعلقان بعلاقة المواطنة بحكم القانون تستحقان التنويه:

 الإشكالية الأولى: تشكلت في الحس الجمعي للناس وخلال حقب طويلة، ممارسات وسياسات بعيدة عن الشعور بالمواطنة. فبدلا من حماية حقوق الفرد (المادية والمعنوية)، كانت في واقع الحال سببا مباشرا في هدر تلك الحقوق. فولدت تلك الممارسات في نفس المواطن المحروم حقدا أو ضبابية جعلته يثأر من الدولة وممتلكاتها.

 وقد تجسدت تلك الممارسات بشكل واضح عقب الاحتلال في نيسان 2003، عبر عنها العديد من الأفراد بحالات النهب والسلب للمصالح العامة والتعدي على الحقوق الخاصة للآخرين، حيث شاعت المخالفة لمعيار المسؤولية الاجتماعية. وبعبارة أخرى أدت تلك الممارسات والسياسات الخاطئة إلى طغيان الأنا ومن ثم التعارض الكبير وعدم التوافق بين المصالح الخاصة والعامة. وهي من وجهة نظر الكثير من الباحثين العامل الرئيسي في استفحال مشكلات الفساد الإداري والمالي في العراق.

 يمكننا القول هنا إن غياب المواطنة الصالحة يؤدي إلى شيوع الفساد المالي (التجاوز على المال العام)، والفساد الإداري (غياب الشخص المناسب في المكان المناسب، أو عدم أداء العمل بالشكل المطلوب، وطغيان ثقافة الولاء بدلا من ثقافة الأداء والانجاز).

 ويقدم الوردي تحليلا علميا معمقا لحالات التجاوز التي يمارسها العراقيون على الحق العام وخرق القانون. إذ يرى أن العراقيين منذ العهد العثماني يعدّون الحكومة عدواً لهم، فهم يفتخرون بعصيان أوامرها، ويحتقرون من يتعاون معها، وإذا جاءهم هارب من الحكومة ولجأ عندهم "دخيلا" فالمفروض فيهم ان يخفوه ويدافعوا عنه ويضلّلوا رجال الحكومة عنه[3].

 وقد بقيت هذه العادات الاجتماعية شائعة بين الناس حتى أيامنا هذه، ولا يزال الكثيرون منهم لا يحتقرون من يخالف القانون، أو يكسر مصابيح الشارع، أو يخرج على صف الانتظار، أو يعاون الصوص. وربما احترمه بعضهم وعدّه رجلا قويا يتحدى الحكومة ولا يخاف منها[4]. بل ان بعض الممارسات اللا قانونية يعدها البعض دليل شطارة وعنوان ذكاء.

 نقف هنا لنقارن اليوم بعض التجارب العالمية بين الدول الفقيرة والغنية، فإننا نجد أن مصادر الرخاء والازدهار لا تعود إلى العمق التاريخي، ولا لتوفر الموارد الاقتصادية، ولا لنوع الديانة أو لون البشر، بل نجد أن الدول المتقدمة اليوم تتصف بشكل عام: باحترام المواطن للقانون، وبأداء العمل الطوعي، وبالأداء الأمين للأعمال، وبالقبول للطرف الآخر، وبالإيمان بالقيم الإنسانية وغيرها. وقد أظهرت دراسة علمية قام بها اين وكر Ian Walker رئيس معهد فريزر الكندي Fraser Institute، حاولت ان تفسر حالات الرخاء الاقتصادي في بعض الدول (شملت الدراسة 135 دولة)، أن متطلبات الحرية الاقتصادية عامل مهم، ولكن العامل الأكثر أهمية هو تطبيق سيادة القانون. واثبت الباحث إحصائيا وجود علاقة طردية بين سيادة القانون (من جهة) ونمو الناتج المحلي الإجمالي، وحجم الاستثمارات الأجنبية، والعمالة، وحرية التعبير والشعور بالمسؤولية، وعكسيا مع نسبة البطالة، ونسبة الفساد، وسوء توزيع الثروة[5].

 وإذا كانت سيادة القانون تعني احترام المواطن للقوانين والتعليمات العامة، وان هناك نوعا من التوافق بين الصالح العام والخاص، فإن تجارب الكثير من البلدان اليوم تظهر ان الحالة الاقتصادية المتطورة لم تكن لتتحقق دون توافر التشريعات القانونية المناسبة واحترام سيادة القانون. وتقدم دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجا رائدا في هذا المجال. فلم تكن حالة التطور الكبير في دبي ناجمة عن سخاء الطبيعة ولا للطبيعة المتميزة للإنسان الإماراتي. مقابل ذلك نجد تراجعا وتقهقرا في تجارب الإصلاح في روسيا وبعض دول أميركا اللاتينية بسبب غياب الأسس الضرورية لسيادة القانون[6]. وفي البوسنة أدى التعدد العرقي والولاء له وغياب الشعور بالانتماء للوطن الواحد الى فشل كثير من الجهود الإصلاحية.

والإشكالية الثانية: أن هناك ظاهرة اجتماعية عامة نكاد نلاحظها في كل مكان، هي أن الفرد العراقي ميال إلى انتقاد حكومته ووضع اللوم عليها في كل ما لا يعجبه من أمور الحياة، وكثيرا ما يقارن حكومته بالحكومات في البلدان المتقدمة، ثم يأخذ بالتأفف والشتم[7]. انه يريد أن تكون أرقى حكومة في الدنيا لكنه ينسى انه لا يتعاون معها ولا يطيع قوانينها. وكما يرى الوردي انه يريد منها ان تكون كحكومة السويد مثلا، بينما هو يسلك اتجاهها كما كان أبوه يسلك تجاه الحكومة العثمانية، انه حفظ الحقوق التي له على الحكومة كالمواطن السويدي ولكنه لا يقوم مثله بالواجبات التي لها عليه[8].

 تأسيسا على ما تقدم، يمكن القول ان المواطنة الصالحة هي الطاقة والروح الضرورية لحركة جميع مفاصل الدولة. إنها العامل المفسر للتطور وإدماج المجتمع في معراج النماء والحداثة. ويمكن ان نختزل الأمر إلى حالة الانسجام بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة التي تلعب المواطنة دورا كبيرا في بلوغ هذا الانسجام.

 إن متطلبات النهوض المجتمعي في العراق اليوم تستلزم الاهتمام بالتربية والتعليم، الى جانب استكمال متطلبات العملية السياسية، وتطوير عمل مؤسسات المجتمع المدني في نشر مبادئ العقد الاجتماعي، فضلا عن تأمين شبكات الأمان الاجتماعي، والتخفيف من الفقر والحد من البطالة، مع توزيع عادل لثمار النمو، واعتماد ثقافة الانجاز والأداء بدلا من ثقافة الولاء. إن جميع هذه المتطلبات ستؤدي إلى تعزيز المواطنة الصالحة.

 وتدلنا تجارب الشعوب التي مرت بظروف مشابهة لظروف العراق كيف أعادت تلك المواطنة لألمانيا الغربية المدمرة الحياة (بعد الحرب العالمية الثانية). إذ لم تستطع معامل "الفولكس واكن" الشهيرة بإنتاج السيارات أن تلتقط أنفاسها لولا قيام العاملين بعد الحرب مباشرة بالعمل دون مقابل والى حين. وتعبيرا عن الاهتمام المتزايد بالمواطنة، أمر رئيس الوزراء البريطاني مؤخرا بتشكيل لجنة بقيادة "اللورد كولدسمث" بإعداد دراسة عن دور المواطنة في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية. وأكملت اللجنة أعمالها في نيسان 2008، ومن جملة التوصيات: التأكيد على احترام حرية الفرد وعدالة الدولة في ممارسة نشاطاتها المختلفة لجميع مكونات المجتمع وتعميق ممارسات العمل الطوعي باستخدام الحوافز المادية.

 

 الهوامش

............................................................................

[1]- علي خليفة الكواري,(2001), " مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية", في, مركز دراسات الوحدة العربية,(محرر), المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية, بيروت, ص13-40

[2] - خالد الحروب,(2001)," مبدأ المواطنة في الفكر القومي العربي من "الفرد القومي" إلى "الفرد المواطن"", في, مركز دراسات الوحدة العربية,(محرر), المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية, بيروت,ص 91-113

[3] - علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، مصدر سابق، ص 301

[4] - المصدر السابق نفسه.

[5]- د. كمال البصري، المواطنة الصالحة والمشكلة الاقتصادية، دراسة منشورة على موقع معهد التقدم للسياسات الإنمائية بتاريخ 13/7/2008.

[6]- المصدر السابق نفسه.

[7] - على الوردي، المصدر السابق نفسه، ص301.

[8]- المصدر السابق نفسه، ص301.

 

المصدر: الحضارية


  • المصدر: http://www.alhakeem-iraq.net/subject.php?id=55
  • تاريخ إضافة الموضوع: 2010 / 03 / 30
  • تاريخ الطباعة: 2024 / 03 / 29