• الموقع: مركز آل الحكيم الوثائقي.
        • القسم الرئيسي: أهل البيت عليهم السلام.
              • القسم الفرعي: الإمام الحسين الشهيد (ع).
                    • الموضوع: حياة الإمام الحسين (ع).

حياة الإمام الحسين (ع)

ولادته:


في اليوم الثّالث من شعبان، من السّنة الرّابع للهجرة (1)، ولد المولود الثّاني لعليّ وفاطمة:، في بيت الوحي والولاية.

وحين بلغ نبأ ولادته للنّبيّ (صلى الله عليه وآله)، جاء إلى بيت عليّ وفاطمة (عليه السلام)، وطلب من أسماء (2)، أن تأتي بابنه، فلفّته أسماء بملاءة بيضاء، وجاءت به للنّبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأذَّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى (3).

وفي الأيام الأولى من ولادته المباركة أو اليوم السّابع منها، هبط الأمين جبرئيل وقال: «إنّ الله ـ عزّوجلّ ذكره ـ يقرئك السّلام ويقول لك، إنّ عليّاً منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون، قال: ما كان اسمه؟ قال: شبير (4) قال: لساني عربيّ، قال: سمّه الحسين، فسمّاه الحسين (5).

وعقّت فاطمة (عليها السلام) عن ابنيها وحلقت رؤوسهما في اليوم السّابع (6)، وتصدّقت بوزن الشعّر ورقا (7).

 

الحسين (عليه السلام) والنبـيّ (صلى الله عليه وآله):


كان الرّسول (صلى الله عليه وآله) يؤكّد على محبّته وحنانه للإمام الحسين(عليه السلام) في مناسبات عديدة، منذ ولادته في السّنة الرّابعة للهجرة، حتّى يوم وفاته(صلى الله عليه وآله)، الّتي تمتد ستّة سنوات وعدّة أشهر، ويعرّف النّاس بمقام الإمام الثّالث وسموّه.

يقول سلمان الفارسي: «كان الحسين على فخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقبّله ويقول: أنت السّيد وإبن السّيد أبو السّادة، أنت الإمام وابن الإمام أبو الأئمّة، أنت الحجّة أبو الحجج، تسعة من صُلبك وتاسعهم قائمهم» (8).

عن أنس بن مالك، قال: سئل النّبيّ (صلى الله عليه وآله) أيّ أهل بيتك أحبّ إليك قال: الحسن والحسين(عليهما السلام) (9)، وكان يقول لفاطمة: أدعي لي إبنيَّ، فيشّمهما ويضمّهما إليه (10).

عن أبي هريرة: قال خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه الحسن والحسين هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرّة، وهذا مرّة، حتى انتهى إلينا، فقال: من أحبّهما فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني (11).

وعن مدى العلاقة المعنويّة الملكوتيّة بين النبيّ والحسين، بما تملكه من سموّ وإنشداد وتعبير، يمكن التعرّف عليها بهذه الجملة الموجزة المعبّرة الّتي نطق بها الرّسول (صلى الله عليه وآله): «حسين منّي وأنا من حسين» (12).

 

الحسين مع أبيه:


أمضى الحسين (عليه السلام) ستّة أعوام من عمره مع النّبيّ (صلى الله عليه وآله) وحين ودّع الرّسول (صلى الله عليه وآله) هذه الحياة، عاش مع أبيه ثلاثين عاماً، ذلك الأب الّذي لم يحكم إلاّ بالعدل والأنصاف، ولم يعش إلاّ بالطّهارة والعبوديّة، ولم ير إلاّ الله، ولم يطلب، ولم يشهد إلاّ الله، ذلك الأب الّذي لم توفّر له الظّروف الصّعبة القاسية الّتي عاشها خلال خلافته الهدوء والاستقرار، كما آذوه حين اغتصاب خلافته.

والإمام الحسين (عليه السلام) خلال هذه المدّة الطّويلة الصّعبة، كان مطيعاً بقلبه وروحه، لأوامر أبيه وتوجيهاته، وفي السّنوات الّتي تولّى بها الإمام عليّ (عليه السلام) الخلافة الظاهريّة الصوريّة، كان الحسين (عليه السلام) جنديّاً مقاتلاً فدائيّاً كأخيه، وبذل أقصى جهوده في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية، وساهم في معارك الجمل وصفّين والنّهروان (13).

وبذلك كان مدافعاً عن أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكان أحياناً، يندّد أمام الرّأي العام بمغتصبي الخلافة.

وأبان خلافة عمر، دخل آلاما الحسين (عليه السلام) يوماً المسجد، فرأى الخليفة الثّاني على منبر الرّسول(صلى الله عليه وآله) يخطب، وبلا تردّد، ارتقى الإمام الحسين (عليه السلام) المنبر، وهتف: «إنزل عن منبر أبي...» (14).

 

الإمام الحسين (عليه السلام) مع أخيه:


بعد شهادة الإمام عليّ (عليه السلام) انتقلت إمامة الشيعة للإمام الحسن (عليه السلام)، إتّباعاً لأمر النّبيّ (صلى الله عليه وآله) ووصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ووجب على جميع النّاس الاستجابة لتوجيهات الإمام الحسن (عليه السلام) وإرشاداته، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) الّذي نشأ في أحضان الوحي المحمّدي، والولاية العلويّة، مشاركاً لأخيه ومعيناً.

وحين أرغم الإمام الحسن (عليه السلام) على الصّلح مع معاوية، حفاظاً على مصالح الإسلام العليا، والأمة الإسلامية، وتحمل كلّ المتاعب والتّحدّيات، في هذا السّبيل، كان الإمام الحسين (عليه السلام) شريكاً لأخيه في أوجاعه ومحنه، ولأنه كان يعلم بأنّ هذا الصّلح في صالح الإسلام والمسلمين، لذلك لم يعترض على أخيه، وحتى أنّه في يوم من الأيام، تحدّث معاوية بكلام بذي عن الإمام الحسن وأبيه (عليهما السلام)، وكان الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) حاضرين في المجلس فلما اندفع الإمام الحسين (عليه السلام) للردّ على معاوية، دعاه الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الصّمت والهدوء، فاستجاب الإمام الحسين (عليه السلام) لطلب أخيه، وجلس، وبعد ذلك، تصدّى الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه للرّدّ على معاوية، وأسكته ببيان بليغ قويّ (15).

 

الإمام الحسين (عليه السلام) في زمان معاوية:


حينما فارق الإمام الحسن (عليه السلام) الحياة انتقلت إمامة الشيعة، لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، إتّباعاً لنصّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله) ووصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعيّن من قبل الله، قائداً وإماماً للأمة.

ورأى الإمام الحسين (عليه السلام) معاوية، مستولياً على زمام الخلافة الإسلامية، معتمداً في ذلك على القوّة الكامنة في الإسلام، وهو يبذل أقصى جهوده الجهنّميّة، وبشتّى الأساليب العدوانيّة، في هدم أُسس الأمة الإسلامية، والتّعاليم الإلهية، وكانت هذه الدّولة الهدّامة الجوفاء تغيض الإمام الحسين (عليه السلام)، وتؤلمه بشدّة، ولكن لم يتمكّن من مواجهتها بالقوّة، وتحشيد القوى، لضربها، وعزل معاوية عن مسند الخلافة الإسلامية، كما عاش أخوه الإمام الحسن (عليه السلام) ظروفاً مشابهة لما يعيشه.

كان الإمام الحسين (عليه السلام) على علم، بأنّه لو أظهر نواياه وطموحاته، وعمل على تجميع القوى وتحشيدها، والسّعي في خرب الدّولة الأموية، فإنّه سوف يقتل، قبل القيام بأيّة انتفاضة أو تحرّك فاعل، لذلك إضطرّ للسّكوت والصّبر على مضيض، متألّماً من واقعه الموجع، وأنه لو تحرّك سوف يقتل، دون أن يؤدّي قتله إلى أيّة نتيجة فاعلة، ومن هنا عاش كما عاش أخوه خلال حياة معاوية، ولم يرفع لواء المعارضة الواسعة الشديدة بوجه حكم معاوية، سوى بعض الاعتراضات التي كان يوجهها لبيئة معاوية الفاسدة، وأعماله وممارساته المنحرفة، ويبعث الامل بين الجماهير في مستقبل قريب، وأنّه سيقوم بعمل مثمر فاعل، وخلال المدّة الّتي كان معاوية يطالب فيها النّاس بالبيعة ليزيد، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يقف موقف المعارضة الصّارمة، ولم يستسلم لبيعة يزيد أبداً، ورفض ولاية عهده، وأحياناً كان يوجّه لمعاوية خطاباً شديد اللّهجة، أو يبعث إليه رسالة ثائرة.

ولم يصرّ معاوية على مطالبته بالبيعة ليزيد، وبقي الإمام الحسين (عليه السلام) كذلك، إلى أن مات معاوية (16).

 

الثّورة الحسينيّة:


بعد أن تولّى يزيد الحكومة الإسلاميّة، ونصب نفسه أميراً للمؤمنين، ولأجل أن يثبّت دعائم سلطته الجائرة الباطلة، صمّم على أن يرسل بياناً للشّخصيّات الإسلاميّة المعروفة، يدعوهم فيه إلى مبايعته، ولأجل ذلك، كتب كتاباً إلى عامله في المدينة، أكّد فيه على أخذ البيعة من الحسين (عليه السلام)، وإذا رفض فعليه ان يقتله، وقد بلّغ العامل هذا النّداء الى الإمام الحسين (عليه السلام) وطالبه بالجواب، فقال الإمام الحسين (عليه السلام): «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السّلام، إذا بُليت الأمّة براع مثل يزيد» (17).

فإذا ابتلت الأمّة بحاكم كيزيد، وهو شارب الخمر، ولاعب القمار، والمنحرف الفاجر، الّذي لم يلتزم بالإسلام حتى بالظّاهر، فعلى الإسلام السّلام، وذلك لانّ أمثال هؤلاء الحكّام، الّذين يحكمون بإسم الإسلام وبقوّة الإسلام سوف يبيدون كيان الإسلام.

وحين رفض الإمام الحسين (عليه السلام) الاعتراف بشرعيّة حكومة يزيد علم بأنّ بقاءه في المدينة سيؤدّي إلى قتله، ولذلك خرج ليلاً بأمر من الله تعالى سرّاً إلى مكّة، وحين وصل مكّة شاع خبر وصوله ورفضه للبيعة، بين النّاس في مكّة والمدينة، حتى وصلت أصداؤها للكوفة، وقد دعا الكوفيّون الإمام الحسين(عليه السلام) التّحرّك إليهم ليمسك بزمام أمورهم، ومن هنا بعث الإمام (عليه السلام) إبن عمّه مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة ليطّلع عن كثب على التّحرك والوعي الاجتماعي في الكوفة ثمّ يكتب للإمام (عليه السلام) في ذلك.

ووصل مسلم الكوفة، واستقبل بحفاوه منقطعة النّظير وبايعه الآلاف كنائب للإمام(عليه السلام)، وكتب مسلم للإمام الحسين(عليه السلام) في هذا الاستقبال الجماهيريّ، وألزمه بالتَّحرك السّريع.

ومع أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعرف أهل الكوفة جيّداً، ويتذكّر خياناتهم وانحرافاتهم خلال خلافة أبيه وأخيه، ويعلم بأنّه لا يمكنه الاعتماد على وعودهم وعهودهم، ومبايعتهم لمسلم، ولكنّه صمّم على التّحرك للكوفة، من أجل إلقاء الحجّة وتنفيذاً لأمر الله.

ولذلك عزم على الذّهاب إلى الكوفة في الثّامن من ذي الحجّة، أي في ذلك اليوم الّذي يعزم فيه الحجيج الذّهاب إلى منى (18)، وكل من لم يصل مكّة بعد، كان يسرع الخطى من أجل الوصول إليها، ولكن الإمام (عليه السلام) بقي في مكّة، وفي مثل ذلك اليوم خرج مع أهل بيته وأصحابه من مكّة متّجهاً إلى العراق، وبعمله هذا كما عمل بوظيفته الدينية، كذلك أراد أن يطّلع كلّ المسلمين في العالم بأنّه لم يعترف بشرعيّة يزيد ولم يبايعه، بل إنّه ثائر ضدّه.

وحين بلغ يزيد نبأ مسلم (عليه السلام) ووصوله إلى الكوفة، ومبايعة الكوفيّين له بعث ابن زياد إلى الكوفة وهو من أقذر أتباع يزيد، ومن أبشع أنصار الدّولة الأمويّة وأكثرهم إجراماً.

وقد استغلّ ابن زياد خوف الكوفيّين، وضعف إيمانهم ونفاقهم، واستفاد من هذه الطّبيعة المنهارة المنحرفة في تنفيذ مآربه ومخطّطاته، ففرّقهم عن مسلم بالإرهاب والرّعب، وهكذا بقي مسلم وحده يقاتل جلاوزة بني زياد، واستشهد أخيراً، بعد قتال شجاع مثير، سلام الله عليه.  وأخذ ابن زياد يحرّض مجتمع الكوفة الخائن المنافق المنحرف ضدّ الإمام الحسين (عليه السلام) حتّى وصل الأمر أن تعبّأ لقتال الإمام الحسين (عليه السلام) بعض الّذين كتبوا إليه يطالبونه بالمجيء إلى الكوفة، وهكذا ضلّوا منتظرين ليأتي الإمام الحسين (عليه السلام) ويقتلوه.

والإمام الحسين (عليه السلام) من اللّيلة التي خرج فيها من المدينة وخلال مدة إقامته في مكّة ومسيره من مكّة إلى كربلاء حتّى يوم استشهاده، كان يؤكّد على هذه الحقيقة بإيماء وصراحة: بأنّ هدفه من التّحرّك هو إسقاط القناع المزيف عن دولة يزيد المعادية للدّين، وليس له هدف إلاّ إقامة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ومواجهة الظّلم والجور، وليس إلاّ الحفاظ على القرآن الكريم، وإحياء الدّين المحمّديّ.

وهذه هي المهمّة الّتي وضعها الله تعالى على عاتقه، حتّى لو أدّى ذلك إلى قتله وقتل أصحابه وأبنائه وأسر أهل بيته.

وقد أكّد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن بن عليّ (عليه السلام) مراراً على شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ولهج النّبيّ باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) حين ولادته (19)، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه يعلم بعلم الإمامة بأنّ الشّهادة هي مصير هذه الرّحلة، ولكن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن من أولئك الّذين يبخلون بأنفسهم في سبيل الله وإطاعة أمر السّماء، أو كان يخشى في ذلك من أسر أهل بيته، إنّه كان يرى البلاء كرامة والشّهادة سعادة، سلام الله الدّائم عليه.

وشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء كانت من الأحاديث الشائعة في الأمّة الإسلامية، حيث كانوا يتداولونها فيما بينهم، لذلك كان عامّة النّاس على علم بنهاية هذه الرّحلة، لأنّهم سمعوها من قريب أو بعيد من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) وكبار صدر الإسلام.

ومن هنا كان تحرّك الإمام الحسين (عليه السلام)، بالرّغم من تلك التّحدّيات والمصاعب، قد ضاعف من احتمال شهادته في أذهان الجماهير، وخاصّة أنّه كان يردّد دائماً خلال مسيره «مَنْ كانَ باذِلاً فينا مُهْجَتَهُ وَمُوَطِّناً على لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحلْ مَعَنا» (20).

ولذلك خطر في أذهان البعض من محبيّه، أن يصرفه عن المسير والتّحرّك.

وقد غفل هذا البعض، أنّ ابن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إمام وخليفة النّبيّ، وهو عالم بوظيفته أكثر من غيره ولن يتوانى أبداً عن المهمّة الّتي عهد بها الله إليه.

أجل... إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) واصل مسيره وتحرّكه، بالرّغم من كلّ هذه النّظريّات والآراء الّتي تدور حوله، ولم يضعف إصراره أبداً.

وهكذا... ذهب واحتضن الشّهادة، ليس وحده بل مع أصحابه وأبنائه، وكلّ واحد منهم كان كوكباً لامعاً مضيئاً في سماء الإسلام ; ذهبوا كلّهم وقتلوا واستشهدوا وعانقوا بدمائهم الطّاهرة رمال كربلاء الملتهبة، لتعلم الأمّة الإسلامية بأنّ يزيد (وريث العائلة الأمويّة القذرة) ليس خليفة لرسول الله، وأنّ الإسلام في أساسه ليس يزيد، ويزيد لا يمثّل الإسلام.

حقّاً... هل فكّرتم، أنّه لو لم تحدث شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) المفجعة والمثيرة، والباعثة على الثّورة والتّحرّك، ويبقى النّاس معتقدين بأنّ يزيد خليفة النّبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولكن بين حين وآخر، كانت تطرق أسماعهم حكايات بلاط يزيد والأعمال العابثة المنحرفة، والشّائنة ليزيد وعمّاله، فإنّ مثل ذلك كان يدفعهم إلى النّفور والاستياء من الإسلام نفسه، فإنّ مثل هذا الإسلام الّذي يمثّل يزيد خليفة لنبيّه، ممّا يستوجب حقّاً مثل هذا النفّرة والاستياء منه.

وأسر أيضاً أهل بيته الأطهار لتصل الرّسالة الأخيرة لهذه الشّهادة إلى أسماع النّاس، وقد سمعنا وقرأنا أنّ هؤلاء الأسرى في كلّ مكان في المدن والأسواق والمساجد وفي البلاط المتعفّن لابن زياد ويزيد كانوا يهتفون ويردّدون بأعلى صوت ويخطبون ليسقطوا القناع النّاعم المزيف، عن الوجه البغيض المجرم لجلاوزة بني أميّة، وقد أثبت هؤلاء الأسرى للجميع بأنّ يزيد اللاّعب بالكلاب والشّارب للخمر لا يصلح أبداً للخلافة الإسلاميّة، وأنّ هذا المسند الّذي نصب نفسه عليه ليس مكانه، لقد أكملت خطاباتهم ونداءاتهم رسالة الشّهادة الحسينيّة، فجّروا زلزالاً في القلوب، ليبقى اسم يزيد وإلى الأبد مثالاً لكلّ قذارة ورذيلة ودنائة، وبذلك تحطّمت كلّ أحلامه الذهبيّة ومطامعه الشّيطانيّة، أجل، لابدّ من رؤية عميقة ليمكن لنا التّوصل لكلّ جوانب هذه الشّهادة العظيمة الفاعلة وأبعادها.

ومنذ بداية استشهاده وحتّى يومنا هذا، يحيى هذه الذّكرى المقدّسة، كلّ محبيّه ومواليه وشيعته وكلّ أولئك الّذين يقدّرون كرامة الإنسان وعظمته وشموخه، ففي كلّ عام يحيون بارتدائهم الثّياب السّوداء ذكراه السّنوية، ذكرى تخضّبه بالدّماء، ذكرى ثورته وشهادته، ويعبّرون عن إخلاصهم ببكائهم على المصائب والمآسي الأليمة الّتي تعرّض لها، وكان أئمّتنا المعصومون(عليهم السلام): بنظرهم البعيد ورؤيتهم الوسيعة يؤلون أهميّة خاصّة لواقعة كربلاء وإحيائها، بالإضافة إلى توجّههم وذهابهم لزيارة حرمه الشّريف، وإقامة مآتم العزاء، وهناك أحاديث كثيرة منقولة عنهم في فضيلة إقامة المآتم، والحزن على الإمام الحسين (عليه السلام).

عن أبي عمارة المنشد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: يا أبا عمارة أنشدني للعبدي في الحسين (عليه السلام)، قال: فأنشدته فبكى ثمّ أنشدته فبكى ثمّ أنشدته فبكى ثمّ أنشدته فبكى، قال: فوالله ما زلت أنشده ويبكي حتّى سمعت البكاء من الدّار، ثمّ ذكر له الإمام(عليه السلام) الثّواب والأجر لمن أنشد الشّعر في الحسين (عليه السلام) (21).

وعن الإمام الصّادق(عليه السلام): «أنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، فإنّه فيه مأجور» (22).

وقال الإمام الباقر(عليه السلام) لمحمّد بن مسلم: «مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام) فإن إتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين(عليه السلام) بالإمامة من الله عزّوجلّ» (23).

يقول الإمام الصّادق (عليه السلام): «إنّ زيارة الحسين (عليه السلام) أفضل ما يكون من الأعمال» (24).

وذلك، لانّ هذه الزّيارة، في الواقع، مدرسة كبيرة، تعلّم البشريّة، دروس الإيمان والعمل الصّالح، لتحلّق الرّوح إلى ملكوت الفضائل والتّضحيات.

وإقامة المآتم، والبكاء على مصائب الإمام الحسين(عليه السلام)، والتّشرف لزيارة ضريحه الشّريف، وتمثّل تاريخ كربلاء الثّائر العظيم، وتجسيده واستعراضه، وإن كان لهذه الممارسات، قيمها ومعاييرها السّامية، ولكن علينا أن نعلم، بأنّه يجب أن لا نكتفي بهذه الزّيارات والدّموع والأحزان، بل إنّ كلّ هذه المظاهر تستهدف أن تذكّرنا بفلسفة الالتزام بالدّين والتّضحية والدّفاع عن التعاليم السّماويّة، وليس لها هدف إلاّ هذا ; ونحن نحتاج وبإلحاح لتلك العطاءات الحسينيّة، أن تعلّمنا الإنسانيّة، وإفراغ القلب من كلّ شيء غير الله، وإلاّ فإنّنا لو اقتصرنا على المظاهر فحسب، فسوف ينسى الهدف الحسينيّ المقدّس.

 

خُلق الإمام الحسين(عليه السلام) وسلوكه:


إذا القينا نظرة عابرة على (56) عاماً من الحياة المستسلمة لرّضا الله الدّاعية له تعالى، الّتي عاشها الإمام الحسين(عليه السلام)، لرأيناها حافلة بالنّزاهة والعبوديّة ونشر الرّسالة المحمّديّة والمفاهيم العميقة، الّتي يعجز الفكر عن التوصّل إلى كنهها.

والآن نمرّ بإيجاز على جوانب من حياته الكريمة:

كان متعلّقاً بشدّة بالصّلاة، والمناجاة مع الله، وقراءة القرآن الكريم، والدّعاء والاستغفار، وربّما صلّى في اليوم الواحد مئات الرّكعات (25)، وحتّى في الليلة الأخيرة من حياته لم يترك الدّعاء والمناجاة، وقد ذكر، أنّه طلب من أعدائه أن يمهلوه ليمكنه أن يخلو مع ربّه، ويتضرّع إليه، وقال (عليه السلام): «لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه، ونستغفره فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصّلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدّعاء والاستغفار» (26).

وقد حجّ عدّة مرّات ماشياً إلى بيت الله الحرام، وأدّى مناسك حجّه كذلك(27)، وروى بشر وبشير إبنا غالب، قالا: كنّا مع الحسين بن علي(عليه السلام) عشيّة عرفة، فخرج(عليه السلام) من فسطاطه، متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً، حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل، مستقبل البيت، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه، كاستطعام المسكين، ثمّ قال:

«اَلْحَمْدُ للهِِ الَّذي لَيْسَ لِقَضائِه دافِعٌ، وَلا لِعَطائِه مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِه صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الْجَوادُ الْواسِعُ، فَطَرَ اَجْناسَ البَدائِع، وَأتقنَ بِحِكْمَتِه الصَّنائِعَ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الطَّلائِعُ، وَلا تَضيعُ عِنْدَهُ الْوَدائِعُ جازي كُلِّ صانِع ورَايشُ كُلِّ قانِع، وَراحِمُ كُلِّ ضارع ومُنْزِلُ الْمَنافِعِ وَالْكِتابِ الْجامِعِ بِالنُّور السّاطِعِ وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ وَلِلْكُرْباتِ دافِعٌ وَللِدَّرَجاتِ رافِعٌ وَللْجَبابِرَةِ قامِعٌ فَلا إلهَ غَيْرُهُ وَلا شَيْء يَعْدِ لُهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ اللَّطيفُ (28) الْخَبيرُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ.

أللّهُمَّ إنّي أَرْغَبُ إلَيْكَ، وَأَشْهَدُ لَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، مُقِّراً بأنَّكَ رَبّي وَإلَيْكَ مَرَدّي، إبْتَدَأتَنِي بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ أَنْ أَكُونَ شَيْئاً مَذْكُوراً، خَلَقْتَني مِنَ التُّرابِ، ثُمَّ أَسْكَنْتَنِي الأَصْلابَ، امِناً لِرَيْبِ المنَونِ، وَاخْتِلاف الدّهور والسِّنينَ،... ثُمَّ أَخْرَجَتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى اِلى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً وَحَفِظْتَنِي في الْمَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً، وَرَزَقْتَنِي مِنَ الْغِذَاءِ لَبَناً مَرِيّاً، وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ، وَكَفَّلْتَنيِ الأَْمَّهاتِ الرَّواحِم، وَكَلأَتَنِي مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ، وَسَلَّمَتَني مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيِمُ يا رَحْمانُ، حَتّى إذَا اسْتَهْلَلتُ ناطِقاً بِالْكَلامِ، اَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الإِْنْعامِ، وَرَبَّيتَني زايدِاً في كُلِّ عام، حَتّى إذا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي، وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتي، أَوْجَبْتَ عَلَيّ حُجَّتَكَ، بِأَنْ أَلْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ، وَرَوَّعْتَني بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وَأيقَظْتَني لِما ذَرَأْتَ في سَمائِكَ وَأَرضِكَ، مِن بَدائِعِ خَلْقِكَ، وَنَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ، وَأوْجَبْتَ عَلَيّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ، وَفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُكَ، وَيَسَّرتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنْنْتَ عَلَيَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ.

ثُمّ إذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيْرِ الثَّرى، لَمْ تَرْضَ لي يا إِلهي نِعْمَةً دُونَ اُخْرى، وَرَزَقْتَني مِن أنواعِ الْمَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ.

حَتّى إذا أتْمَمْتَ عَلَيّ جَميِعَ النِّعَمِ، وَصَرَفْتَ عَنّي كُلَّ النِّقم، لَمْ يَمْنَعُكَ جَهْلي وَجُرأتي عَلَيْكَ، أنْ دَلَلْتَني إِلى ما يُقَرِّبُني إلَيْكَ، وَوَفقتَنِي لِما يُزْلِفُنِي لَدَيْكَ....

فَأَيَّ نِعَمِكَ يا إلهي اُحْصي عَدَداً وذِكْراً، أَمْ أيَّ عَطاياكَ أقُومُ بِها شُكْراً، وَهيَ يا رَبِّ أكْثَرُ مِنْ أنْ يُحْصِيَهَا العادُّونَ، أو يَبْلُغَ عِلْماً بِها الحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأتَ عَنِيّ اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرّاءِ أكْثَرُ مِمّا ظَهَرَ لي مِنَ الْعافيَةِ وَالسَّرّاءِ.

«وَأنّا أشهدُ يا إلهي بِحَقيقَةِ إيماني وَ... أن لوْ حاوَلتُ وَاجْتَهَدْتُ مَدى الإعْصارِ وَالأَحْقابِ لَوْ عُمّرِتُها أنْ اُؤَدِّي شُكْرَ واحِدَة مِنْ أنْعُمِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ذلِكَ إلاّ بِمَنِّكَ الْمُوجِبِ عَلَيَّ بِهِ شُكْرُكَ أبَداً جَديداً وثناءً طارِفاً عَتيداً....

اَللّهُمَّ اجْعَلْني أَخْشاكَ كَأنّي أَراكَ، وَأَسْعِدْني بِتَقْواكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ....

أللَّهُمَ إجْعَلُ غِنايَ في نَفْسي، وَاليَقِيْنَ في قَلْبي، وَالإخْلاصَ في عَمَلي، وَالنُّورَ في بَصَري، وَالْبَصِيْرَةَ في دِيني، وَمَتِّعْني بِجَوارِحي....

وَإنْ أعُدَ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وكَرائِمَ مِنَحِكَ لا أُحْصيها يا مَولاي.

أنْتَ الّذي مَنَنْـتَ.

أنْتَ الّذي أنْعَمْـتَ.

أنْتَ الّذي أحْسَنْـتَ.

أنْتَ الّذي أجْمَلْـتَ.

أنْتَ الّذي أفْضَلْـتَ.

أنْتَ الّذي أكْمَلْـتَ.

أنْتَ الّذي رَزَقْـتَ.

أنْتَ الّذي وَفّقْـتَ.

أنْتَ الّذي أعْطَيْـتَ.

أنْتَ الّذي أغْنَيْـتَ.

أنْتَ الّذي أقْنَيْـتَ.

أنْتَ الّذي آوَيْـتَ.

أنْتَ الّذي كَفَيْـتَ.

أنْتَ الّذي هَدَيْـتَ.

أنْتَ الّذي عَصَمْـتَ.

أنْتَ الّذي سَتَـرْتَ.

أنْتَ الّذي غَفَـرْتَ.

أنْتَ الّذي أقَلْـتَ.

أنْتَ الّذي مَكّنْـتَ.

أنْتَ الّذي أَعْزَزْتَ.

أنْتَ الّذي أعَنْـتَ.

أنْتَ الّذي عَضَدْتَ.

أنْتَ الّذي أيَّـدْتَ.

أنْتَ الّذي نَصَـرْتَ.

أنْتَ الّذي شَفَيْـتَ.

أنْتَ الّذي عافَيْـتَ.

أنْتَ الّذي أكْرَمْـتَ.

تَبارَكْتَ رَبّي وَتَعالَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ دائِماً ولكَ الشُّكرَ واصِباً، ثُمَّ أنا يا إلهي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبي فَاغْفِرْها لي… [إلى آخر الدّعاء]» (29)..

وقد أثّر دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) تأثيراً قويّاً بين النّاس في ذلك اليوم، وشدّهم بالله، بحيث ضجّوا بالبكاء والنّحيب، وأخذوا يردّدون الدّعاء مع إمامهم.

وذكر ابن الأثير في كتابه أسد الغابة «كان الحسين رضي الله عنه، فاضلاً كثير الصّوم والصّلاة والحجّ والصّدقة وأفعال الخير جميعها» (30).

ومما يدلّ على سموّ شخصيّة الإمام الحسين (عليه السلام) واحترامه وإكباره أنّه حين كان يحجّ ماشياً مع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام)، يترجّل كلّ الكبار، والشّخصيّات الإسلامية آنذاك إحتراماً لهم، ويسيرون معهم (31).

إنّ تقدير الأمّة للإمام الحسين (عليه السلام) واحترامها إنّما نشأ من أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعيش بين النّاس، ولم يعتزل النّاس، كان متلاحماً مع روح المجتمع، ويشعر كالآخرين، بآلامهم وآمالهم، والأسمى من ذلك، أنّ إيمانه القويّ بالله الّذي لم يضعف أبداً، كان يجعله دائماً مشاركاً لأوجاع النّاس وآلامهم.

وإلاّ فإنّه (عليه السلام) لم يكن يمتلك القصور الشّاهقة الفخمة، ولا الجنود والعبيد المحافظين عليه، ولم يكن كالجبّارين يقطعون الطّرق على النّاس، ويفرغون لهم مسجد الرّسول (صلى الله عليه وآله).

والرّواية الثّالية تعبّر عن مثال لأخلاقه الاجتماعية «مَرّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) بمساكين قد بسطوا كسائاً لهم فألقوا عليه كسراً، فقالوا: هلمّ يابن رسول الله، فثنى وركه فأكل معهم، ثم تلا (إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرين)(32)، ثمّ قال: قد أجبتكم فأجيبوني؟، قالوا: نعم يابن رسول الله، فقاموا معه حتّى أتوا منزله، فقال للجارية: أخرجي ما كنت تدّخرين (33).

شعيب ابن عبد الرّحمن الخزاعي قال: وجد على ظهر الحسين بن عليّ (عليه السلام) يوم الطّف أثر، فسألوا زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك، فقال: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين (34).

ويمكن أن نتعرّف على مدى اهتمام الإمام الحسين (عليه السلام) بالدّفاع عن المظلومين وحمايته للمحرومين، من خلال حكاية أرينب وزوجها عبد الله بن سلام، ونستعرضها هنا بإيجاز:

إنّ كلّ وسائل وموائد الرفاة والتّرف والفجور، أمثال المال والمنصب والجواري والفتيات وغيرها، كلّها كانت متوفّرة ليزيد، ولكن بالرّغم من كلّ ذلك كانت عينه الوقحة الفاجرة تلاحق أعراض الآخرين، ويحاول التعدّي على زوجاتهم العفيفة.

وبدلاً من أن يضرب أبوه معاوية على يد ابنه المجرمة، ويمنعه من تصرّفاته الشائنة الدّنيئة، فإنّه كان يمهّد له طرق ووسائل التّجاوز والتّعدي المشين، بمختلف أساليب المكر والكذب والخداع، ومن هنا فرّق بين امرأة مسلمة عفيفة وزوجها وأخرجها من بيت الزّوجية ليلقيها في أحضان إبنه الموحّلة القذرة، ويربطها بهذا الشّاب النزق الفاجر، وقد اطلع الإمام الحسين (عليه السلام) على الحادثة، وواجهه بشدّة هذه المحاولة الشّائنة، وأبطل المخطّط الجهنّمي، وأعاد الزّوجة إلى زوجها عبد الله بن سلام اعتماداً على بعض الأحكام الإسلاميّة، ومنع أيدي التّعدي والتّجاوز أن تمتد إلى البيوت المسلمة الطّاهرة، وقد أظهر بعمله المقدّس هذا ـ أما الرّأي العامّ ـ مدى غيرة الهاشمييّن، ومدى اهتمامهم الدّائب المشدّد بالحفاظ على نواميس الأمّة الإسلاميّة، وقد بقيت وستبقى هذه الحكاية، وموقف الإمام الحسين (عليه السلام) في سجلّ التاريخ، وإلى الأبد، من مفاخر آل عليّ، ومن جرائم ورذائل بني أميّة (35).

يقول العلائلي في كتابه (سموّ المعنى في سموّ الذات):

«فقد عرّفنا العظيم في ثوب الشّجاع، وعرّفنا العظيم في ثوب البطل، وعرّفنا العظيم في ثوب الضحيّة الشّهيد، وعرّفنا العظيم في ثوب الزّاهد، وعرّفنا العظيم في ثوب العالم، وأمّا العظمة في كلّ ثوب، والعظمة في كلّ مظهر، حتّى كأنّها تآزحت من أقطارها فكانت شخصاً مائلاً للنّاس يقرأونه ويعتبرون به، فهذا ما نجده في الحسين (عليه السلام) وحده، وهذا ما نلمسه فيه فقط، حيث هو من نفسه وحيث هو من نسبه، فلقد يكون أبوه مثله، ولكن لا يجد له أباً كمثل نفسه» (36).

فرجل كيفما سموت به من أيّ جهاته إنتهى بك إلى عظيم، فهو ملتقى عظمات ومجمع أفذاذ، فإنّ من ينبثق من عظمة النّبوّة (محمّد)، وعظمة الرّجولة (علي)، وعظمة الفضيلة (فاطمة)، يكون أمثولة عظمة الإنسان، وآية الآيات البيّنات، فلم تكن ذكراه ذكرى رجل، بل ذكرى الإنسانية الخالدة، ولم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذّة.

فالحسين (عليه السلام) رجل، ولكن فيه آية الرّجال، وعظيم ولكن فيه حقيقة العظمة، فرعياً لذكراه ورعياً للعِظَة به.

ومن ثمّ كان جديراً بنا أن نستوحيه على الدّوام كمصدر إلهاميّ إنبثق وهّاجاً قويّاً، وامتدّ بأنواره أجيالاً وأجيالاً، ولا يزال يسطع كذلك حتّى ينتظم اللاّنهايات، وينفذ إلى ما وراء الأرض والسّماوات، وهل لنور الله حدّ يقف عنده، أو مَعلَم ينتهي إليه.

وكذلك يجد من تدبّر نهايته، أعظم بها نهاية، وأعظم بها تضحية وأعظم بها مثلاً، وذكرى نادرة، حتى كان يد الله خطّت بها على الأبدية سطراً أحمر قانياً.

فلتسمع الأجيال ولتستيقظ الإنسانية، على الصّوت الرجّاف الّذي ينبعث من أعماق الرجم ومن وراء القبور، حياً جياشاً ينفذ إلى الأعماق فتستعر له الضمائر، وينثال إلى مواطن الشّعور فيحيى به الوجدان.

وعلى نيّرات مثل هذا الصّوت فقط يتبانى للإنسانية أن تغسل آثامها وتخلص من أدرانها، وتتطهّر من أرجاسها.

ولنستمع لبعض أحاديثه وأقواله الّتي تهزّ المشاعر وتجذب القلوب: «انّ النّاسَ عبيدُ الدُّنْيا، والدّينُ لَعْقٌ عَلى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَه ما دَرَّتْ مَعايِشُهُمْ، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاء قَلَّ الدَّيّانُونَ» (37).

ويخاطب الإمام الحسين (عليه السلام) ابنه زين العابدين (عليه السلام): «أَيْ بُنَيَّ إِيّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لا يَجِدُ عَلَيْكَ ناصِراً إِلاَّ الله جَلَّ وَعَزَّ» (38).

وطلب رجل من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يكتب له خير الدُّنيا والآخرة، فكتب له (عليه السلام): «بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ: أمّا بَعْدُ فَإنَّ مَنْ طَلَبَ رِضى اللهِ بِسَخَطِ النّاسِ كَفاهُ اللهُ أمورَ النّاسِ، وَمَنْ طَلَبَ رِضَى النّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ الىَ النّاسِ والسَّلامُ» (39).

وروى أنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) جاءه رجل، وقال: أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة.

فَقالَ (عليه السلام): «إفْعَلْ خمْسَةَ أَشْياءَ وَاذْنِبْ ما شِئْتَ: فَأوَّلُ ذلِكَ، لا تَأْكُلْ رِزْقَ اللهِ وَاذْنِبْ ما شِئْتَ.

وَالثّاني: أُخْرُجْ مِنْ وَلايَةِ اللهِ، وَأذْنِبْ ما شِئْتَ.

والثّالِث: أطْلُبْ مَوْضِعاً لا يَراك اللهَ، وَأذْنبْ ما شِئْتَ.

والرّابعُ: إذا جاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَكَ فَادْفَعْهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَأذْنبْ ما شِئْتَ.

وَالخامِسُ: إذَا أَدْخَلَكَ مالِكٌ في النّار، فَلا تَدْخُلْ فِي النّارِ، وَأذْنِبْ ما شِئْتَ» (40).

 

الهوامش

ــــــــــ

(1) هناك أقوال أخرى حول السّنة أو الشّهر أو اليوم الّذي ولد فيه الإمام الحسين (عليه السلام)، ونحن قد ذكرنا القول المشهور بين الشّيعة، يراجع كتاب أعلام الورى للطّبرسي، ص 213.

(2) يحتمل المراد من أسماء هي إبنة يزيد بن سكن الانصاري، يراجع أعيان الشّيعة، ج11، ص167.

(3) أمالي الشّيخ الطّوسي، ج1، ص377.

(4) شبر على وزن حسن، وشبير كحسين، ومشبر كمحسن، أبناء هارون، وقد سمّى النّبيّ (صلى الله عليه وآله) بأسمائهم أولاده الحسن والحسين ومحسن، يراجع تاج العروس، ج3، ص389 ; وشبر وشبير ومشبر، هم أولاد هارون على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام، ومعناها بالعربيّة حسن وحسين ومحسناً، لسان العرب، ج6، ص60.

(5) معاني الأخبار، ص57.

(6) قد أكدَّ في النّصوص الإسلامية كثيراً على العقيقة، لسلامة الأبناء والحفاظ عليهم، وسائل الشّيعة، ج15، ص143.

(7) الكافي، ج6، ص33.

(8) مقتل الخوارزمي، ج1، ص146 وكمال الدين للصدوق، ص152.

(9) سنن الترمذي، ج5، ص323.

(10) ذخائر العقبى، ص122.

(11) الإصابة، ج1، ص330.

(12) سنن الترمذي، ج5، ص324 ; وقد نقلنا هنا بعض الروايات من كتب أهل السنة، لتكون معتبرة ونافذة عليهم.

(13) الاصابة، ج1، ص333.

(14) تذكرة الخواصّ لابن الجوزيّ، ص234 ; الاصابة، ج1، ص333، وكما ذكر المؤرّخون بأنّ هذه الواقعة حدثت، وكان عمر الإمام(عليه السلام) عشر سنوات.

(15) الإرشاد للشّيخ المفيد، ص173.

(16) رجال الكشي، ص50، كشف الغمة، ج2، ص206.

(17) مقتل الخوارزمي، ج1، ص184، اللّهوف، ص24.

(18) يستحبّ في اليوم الثّامن لذي الحجّة، أن يذهب الحجيج إلى منى، وكان المسلمون في ذلك الزّمان يعملون بهذا الحكم المستحبّ، ولكن المتعارف في زماننا أن يذهب الحجّاج في اليوم الثّامن إلى عرفات بصورة مباشرة.

(19) كامل الزّيارات، ص468 ; مثير الاحزان، ص9.

(20) اللّهوف، ص61.

(21) كامل الزيارات، ص1050.

(22) كامل الزيارات، ص100.

(23) كامل الزيارات، ص121.

(24) كامل الزيارات، ص147.

(25) العقد الفريد، ج3، ص143.

(26) الإرشاد للمفيد، ص214.

(27) المناقب لابن شهر آشوب، ج3، ص224 ; أسد الغابة، ج2، ص20.

(28) يذكر الصدوق حول تفسير اللطيف: 1 ـ انه لطيف في تدبيره وفعله وقد روي في الخبر أنّ معنى اللّطيف، هو أنّه الخالق للخلق اللّطيف كما أنّه سمّي العظيم لانّه الخالق للخلق العظيم.  2ـ إنّه لطيف بعباده فهو لطيف بهم بارّ بهم منعم عليهم (التوحيد للصدوق، ص217).

(29) ذكر هذا الدّعاء السيّد إبن طاووس في الإقبال، ص339 ـ 350، والكفعمي في البلد الأمين، ص251 ـ 258، والمجلسي في البحار، ج98، ص213 ; والقمّي في مفاتيح الجنان، وغيرها من الكتب، ويمكن للقاري أن يراجع مفاتيح الجنان، وهو في متناول أيدي الجميع.

(30) أسد الغابة، ج2، ص20.

(31) ذكرى الحسين (عليه السلام)، ج1، ص152، نقلاً عن رياض الجنان، ط بمبي، ص241 أنساب الإشراف.

(32) سورة النّحل، آية 22.

(33) بحار الأنوار، ج44، ص189.

(34) المناقب، ج2، ص222.

(35) يراجع الإمامة والسّياسة، ج1، ص253.

(36) سموّ المعنى، ص90.

(37) تحف العقول، ص250.

(38) تحف العقول، ص251.

(39) البحار، ج78، ص126.

(40) البحار، ج78، ص126.

  • المصدر: http://www.alhakeem-iraq.net/subject.php?id=101
  • تاريخ إضافة الموضوع: 2010 / 04 / 22
  • تاريخ الطباعة: 2024 / 03 / 28